المقاومة الموريتانية والأتراك.. قراءة في علاقات المقاومة بالعالم الاسلامي
الثلاثاء, 21 يناير 2014 14:21

 

 

JPG - 437.1 كيلوبايتلم أكن أعرف أن للمقاومة الموريتانية امتدادات في تركيا، وأن لها علاقات عميقة بدوائر عثمانية ودوائر أتاتوركية، بل كان لها مبعوث خاص في إسطنبول حاضرة الدولة العثمانية. هذا ما تؤكده الوثائق الفرنسية التي توضح بشكل لا غبار عليه أن هنالك في داخل المقاومة الموريتانية من حاول أن يعطي بعدا حداثيا للمقاومة، وأن يربطها في ثلاثينات القرن الماضي بالتيارات الفكرية والسياسية التي كانت قائمة بتركيا خلال عهد كمال أتاتورك وبعد انقضاء الدولة العثمانية. فالشواهد قائمة على أن من بين الموريتانيين شابا استطاع أن يرتقي 

في رتب

 

الجيش التركي، وأن يقاتل بضراوة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الأتراك المسلمين، ولم يكتف هذا الشاب بهذا الأمر فقط بل التحق بالجامع الأزهر حيث كان طالبا من نوع خاص. ظل هذا الموريتاني القادم من ولاتة، رغم ما تتسم به للمؤسسة الأزهرية من بعد تقليدي، يحمل تفكيرا حداثيا، لحد أن الوثائق الفرنسية تصفه بالشنقيطي المشبع بالفكر "العلماني" في بداية ثلاثينيات القرن الماضي.

حاول زين العابدين الشنقيطي، ذو الرؤية التحررية، وأول ضابط شنقيطي في الجيش العثماني أن يعود إلى موريتانيا في وقت مبكر بأفكاره "الكمالية"، بل وأن يستفيد من علاقات المقاومة الموريتانية ببعض الأوساط السياسية والدينية في المغرب في توسيع دائرة نشاط المقاومة الموريتانية وربطها بدوائر أخرى سياسية وثقافية، لكن الفرنسيين كانوا بالمرصاد لتحركات هذا الموريتاني الشجاع والمقاوم.

 

عثرت في السنغال على مجموعة من الوثائق النادرة المتعلقة بهذا الرجل والتي تعكس جانبا عجيبا وغير معروف من تاريخ المقاومة الموريتانية خصوصا في علاقاتها بالدولة التركية وبالمشرق العربي وخصوصا جامع الأزهر ويتعلق الأمر بشخصية موريتانية لا نعرف عنها الكثير تعرف باسم محمد زين العابدين بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.

عرضت الوثائق على زميلي التركي الدكتور برهان كورغلو، الباحث بمركز "سيتا" للدراسات الاجتماعية والاقتصادية بإسطنبول. وقد طلبت منه أن يبحث لي في الأرشيف العثماني عن هذا الرجل، وهل هنالك من ذكر له في الوثائق التركية. لم يعثر برهان حتى الآن على معلومات عن الرجل.

وعرضت هذه الوثائق كذلك على زميلي الباحث مربيه ربه بن الشيخ ما العينين مدير مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي بالرباط، وقد استفسر عنها بعض الشيوخ فأكدوا بعض ما جاء فيها، وحدثه بعضهم عن ذلك الرجل الأنيق الذي كان موضع ثقة الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين، والذي لم يكن يشبه لا في ثقافته ولا في لباسه غيره من الموريتانيين.

 

 

من هو زين العابدين الشنقيطي؟

 

جميع معلوماتي عن هذا الرجل المقاوم مصدرها الأرشيف الفرنسي فلم أجد عنه حتى الآن أكثر مما في تلك الوثائق. هو محمد زين العابدين بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي من أهل اجيه المختار (التي تنتمي إليها أسرة أهل الشيخ محمد فاضل). ولد في الحوض قرب ولاتة سنة 1908 كما في الوثائق التي بين يدي، وهو تاريخ مستبعد لأن الوثائق تذكر أيضا أنه شارك إلى جانب العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. فربما كان ميلاده قبل ذلك بفترة. انتقل زين العابدين من مسقط رأسه وهو شاب يافع، ويبدو أن فكرة مناهضة للاستعمار قد استهوته فكان له ممر بالمقاومة بالشمال، ثم انتقل إلى المشرق حيث كان والده في مكة المكرمة قبل أن ينتقل إلى تركيا.

بعث إليه الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين وهو في المشرق ليعود إلى موريتانيا سنة 1933 فانتقل من القاهرة وحل بطنجة قادما من مرسيليا تحت مسمى "مبعوث تركي" ليصل بعد ذلك لتيزينت ومن هنالك انتقل إلى مناطق جبال الأطلس. كان في كل مرة يغير اسمه ففي نوفمبر-أكتوبر 1933 كان في الدار البيضاء تحت مسمى السيد محمد بن عبد الله. ثم عمل محصلا في محل بالدار البيضاء وكان اسمه السيد أحمد الحاجي.

ومن الدار البيضاء ذهب إلى موريتانيا آخذا مسمى محمد بن إبراهيم ومن هناك تم نقله إلى دكار في يناير 1934، ليعود إلى المغرب مرة ثانية وينزعم بمراكش حملة تستهدفت اليهود فتم سجنه بعد اتهامه في ضلوع النشط والقوي في الأعمال المضادة للسامية في مراكش.

ما إن شارك بنشاط وفعالية في بعض التحركات المناهضة للفرنسيين في المغرب والتي منها مضايقة بعض اليهود المغاربة العاملين والخادمين للفرنسيين حتى بدأت شكوك الفرنسيين تحوم حوله فجمعت عنه ما استطاعت من معلومات عممتها على نظيرتها وخصوصا فبعثت بهذه المعلومات إلى الإدارة الاستعمارية الفرنسية في دكار مبينة هوية زين العابدين في وثيقة مؤرخة بتاريخ 24 أغسطس 1934. فالمعني محمد زين العابدين بن محمد بن الشيخ الأمين الشنقيطي الذي وصل إلى القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ومن مصر توجه للحجاز ومن هنالك غادر نحو تركيا حيث ترقى في سلم الجيش ليصير أول ضابط موريتاني في الجيش العثماني، وقد وجد أباه الشيخ محمد الأمين أمامه في الأناضول. وما إن حلت سنة 1930 حتى غادر زين العابدين تركيا متجها نحو مصر مرة ثانية، وقد تزامنت تلك العودة مع إصدار الاحتلال الفرنسي للمغرب الظهير البربري وذلك في 17 ذي الحجة 1340هـ/16 مايو 1930م.

وثيقة 5

ومعلوم أن الظهير البربري عبارة عن نص قانون يقضي بجعل إدارة المنطقة البربرية في المغرب تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة "حكومة المخزن" أو السلطان المغربي، وبموجبه تم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للبربر، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات "الشريفي" المستند إلى الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق البربرية؛ أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام. وكان البربر يشكلون حوالي 45% من سكان المغرب في تلك الفترة، وينتشرون في بلاد الريف وجبال أطلس.

أقام زين العابدين أشهرا في القاهرة حيث انتسب للجامع الأزهر، فكان من أوائل الطلاب الموريتانيين بهذا الجامع العريق. وفي مصر ربط زين العابدين علاقات مع العالم المغربي أبو شعيب الدكالي والمكي الناصري كما تقول الوثائق الفرنسية. والدكالي والناصري شخصيتان من أبرز الشخصيات العلمية والسياسية في المغرب بداية القرن العشرين. وقد أسسا لتيار سياسي وإصلاحي سيكون السيد علال الفاسي من أبرز رموزه، غير أن زين العابدين، الذي كان وثيق الصلة بالشباب المغاربي الذي يدرس في القهرة لم يكن منجرفا في هذا التيار الفكري ذي النزعة الدينية بل كان ذا توجهات حداثية متأثرة بالمناخ الفكري الذي كان سائدا في تركيا الكمالية في بداية ثلاثينات القرن الماضي، وخصوصا وأن والده الشيخ محمد الأمين كان مقربا من الزعيم التركي كمال أتاتورك حسب الاستخبارات الفرنسية.

وفي بداية سنة 1932 عاد زين العابدين مشبعا بالفكر الحديث ليعمل على نشره في صفوف الشباب المغاربي.

 

 

دلالات هذه الوثائق

 

نفهم من هذه الوثائق النادرة أن المقاومة الموريتانية قد تفطنت في وقت مبكر لأهمية التواصل مع مختلف القوى الإسلامية في المغرب والمشرق، وأن هذه المقاومة وخصوصا الشيخ ماء العينين وأبناؤه من بعده قد فتحوا قنوات اتصال مع الدولة العثمانية أولا ومع مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك بعد ذلك.

فزين العابدين وربما أبوه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي مثلا خير تمثيل المقاومة في المشرق وقاما بأدوار ربما سنجد بعض تفاصيلها لو اطلعنا على ما كتب عنهما في الأرشيف العثماني.

ومن الواضح أن الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين الذي تولى تنسيق الكثير من أمر المقاومة بعد وفاة أخيه الشيخ أحمد الهيبة كان على علم بتحركات زين العابدين وكان ينسق معه بعض علاقات المقاومة الموريتانية بجهات مشرقية وتركية. يشكل زين العابدين نوعية خاصة من رجال المقاومة حيث لم يكن حامل سلاح في الميدان فحسب بل استطاع من خلال عمله في الجيش العثماني وترقيه في الرتب إلى أصبح ضابطا فضلا عن تكوينه في الجامع الأزهر أن تصبح له رؤية ثقافية حديثة وفهم لما يجري حوله، والعلاقات بين المؤسسة الاستعمارية وبين العالم الإسلامي.

وربما لو أتيح لنا الاطلاع على مزيد من الوثائق التركية والمغربية أن نعرف أكثر هذا الرجل، وان نستكشف دائرة جديدة من دوائر المقاومة الموريتانية لم نكن نعرف عنها شيئا.

رحم الله زين العابدين بن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الذي كان سفيرا عظيما من سفرائنا في فترة تاريخية هامة من تاريخنا، والذي يستحق علينا أن نعمق البحث حوله وأن نعطيه ما يستحقه من مكانة.

نقلا عن الطواري

المقاومة الموريتانية والأتراك.. قراءة في علاقات المقاومة بالعالم الاسلامي