تحقيق حول ظاهرة التسول : الدوافع ..الآثار..العلاجات
الخميس, 24 أبريل 2014 22:28

altشهدت المدن الموريتانية تحولات استراتيجية هامة ، فبعد أن اتسمت حياتهم بالنشاط والقدرة الفائقة على التكيف مع حياة الريف حتى أضحى التفاعل مع الظروف البيئية والمناخية والإقتصادية يحدث بتلقائية دون دراسة أو تخطيط وكأنه تفاعل  يقع برمية من غير رام ، إلا أن الإستعمار وماترتب عنه من مؤثرات وكذلك الثورة الصناعية الحديثة ، كلها أمور ساهمت في بروز الدولة كبديل إستراتيجي عن التقسيمات القبلية والإجتماعية التي كانت سائدة .

فقد عرف الموريتانيون المدن الحديثة لأول وهلة ، ولكنها مدن برزت إلى الوجود في ظرف زماني تنعدم فيه المصادر البشرية ذات الكفاءات اللازمة ، فما احدثته المدينة الجديدة من وقع شكل همسات وأجراسا في آذان المتلقين ، إذا انضافت إليه مخلفات الجفاف التي أتت على الزرع والضرع فجفت منابع العيش وفقد الريف نكهته .

هذه عوامل وغيرها افضت إلى النزوح السكاني من حياتهم الأولى التي ألفوها ، وأستطاعوا أن يذللوا مصاعبها إلى حياة مدنية جديدة عليهم  ، فأكتظت المدن وتولدت تراكمات كثيرة في شتى المجالات ، وبرزت متطلبات جديدة للحياة الضرورية ، فللصحة والتمدرس والمأوى نصيب الأسد ، ويحتل فيها الماء الصدارة أيضا .

وانعكست الأعمال المدرة للنفع  : من ترويض الحيوان وتطويع الأرض إلى ضرورة ولوج سوق العمل بأذرع مفتولة ومهارات خلاقة ، ولكن عمق الفجائية في تسارع الهجرات سبب إرباكا مخلا للمدن أدى إلى تعقد المشهد فتولد عنه إنعدام فرص العمل ، ومن ثم تعاظم غول البطالة فأصبحت الأرضية خصبة لإيواء كم هائل من الامراض الجديدة على مجتمعنا مثل التسول الذي يعد اليوم ظاهرة مألوفة فرضت نفسها في عمق النسيج الإجتماعي في المدن الموريتانية الفتية التي شهدت إنسيابية في القيم لا تتناسب في تسارع وتيرتها مع حداثة نشأتها .

ومعلوم أن مجتمعنا تمتع ببداوته ردحا من الزمان ممتطيا صهوة الترحال تبعا لما تجود به السماء من عصب الحياة ، وقد إنعكس عدم الإستقرار والتنقل على الواقع القبلي فكانت كل قبيلة تجد نفسها موزعة إلى كتل وعشائر تنتشر في الأرض بحثا عن الكلإ ، ضف إلى ذلك حجم التنافس الإيجابي المألوف بين المجتمعات .

إنه تنافس في القيم التي هي في  الميتلوجيا الوطنية منظمومة من المبادئ تقوم على الأعراف والتقاليد ، فيها تتباهى العشائر بالقناعة شعورا بالفوقية ، فروح الإيباء لديهم تأبى الضيم والشعور بالكبرياء ولد في نفوسهم إحساسا بالتسامي عن كل مايعتبرونه وصمة عار تؤرقهم وتقض من مضجعهم في مجتمع اعرافه لا ترحم ، كل فرد منه تربعت في وجدانه الفسيح محكمة تستمد في  احكامها على منظومة من المثل مثلت شرعة أمة .

 فكم من أقوام حلت بهم لعنة المجتمع فعاشوا منبوذين وتركوا لأحفادهم إرثا ثقيلا تلاحقهم نظرات الإحتقار ، ورغم أنهم ما جنوا على أحد إلا أن بصمات الرذيلة تضرب مخالبها بعمق في سلالات أزلامها ، فلا ينجو من تأثير سمها رضيع من احفاد تلك الفصيلة فسلاحها أشد وقعا .

إنه سلاح ذو حدين يصيب الضحية ولاتسلم من سهامه النافذة  الأجيال اللاحقة  ، ومهما كان عمق الفاقة فإن الفرد لايستطيع أن يتأبط حقيقة التسول وذلك لعوامل عديدة :

اـ محدودية حجم العشيرة مما أفقده الستار اللازم للإختفاء فعين المجتمع تتابعه أنى توجه ، وهاجس  لعنة القبيلة ماثل أمام أخيلته ، يعتبر نظرة المجتمع سلاحا يترصده ،فلو كان ثمة كثافة سكانية لأمكنه الإختفاء والتستر خلف ضباب تلك الكثافة عن الأنظار فيفعل مايشاء ووفق ما يشاء بعيدا عن الضوابط  ، ويسلم من مقابلة ليست متكافئة طرفها الأول فرد مسلوب الإرادة ضعيف أعياه الزمن فشعر بألم الفاقة .

والطرف الثاني المجتمع بأطيافه وأحكامه القاسية .

ب ـ تضخم الأنا والشعور بالذات ونمو روح الكبرياء وكلها سمات بارزة شكلت واقعا معقدا يصعب تجاوزه .

ومن حاول التجرد  من ذلك الإحساس الكثيف الذي اصبح جزء من الذات وخيطا متينا يتم به حبك الشخصية في طورها المتعالي الذي يسمو عن الخطيئة ويستخدم طلاء الفضيلة كصبغة يستحيل معها تسرب ما يعافه المجتمع من سلوك وأفعال .

ج ـ بساطة الحياة وسهولة العيش كلها أمور ساهمت إلى حد كبير في تبسيط مؤونة العيش ، فالأغذية المفضلة هي اللحوم والألبان والحبوب وهي أغذية تساعد الطبيعة والترحال في توفيرها .

فالعيش لا يتطلب العمل المتواصل والبحث الجاد عن مصادر توفر الحياة الكريمة لأن الأرض تجود بما وهبها الله والحيوانات مجبولة سخرها عزيز مقتدر لتدر من عطاءها حيث لا يحتاج المرأ إلى عقود عمل .

الطبيعة معطاة لا تخص بعطاءها أحدا دون الآخر ، ولا تبغي جزاءا ولا شكورا حالها كما قال الشاعر :

إن الحياة حبتك كل كنوزها ....     لاتبخلن على الحياة ببعض مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

من ذا يكافيء زهرة فواحة ...     أو من يثيب البلبل المترنمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

 

د ـ ما أتسم به المجتمع من كرم وإيثار وتعاون وتآزر في السراء والضراء  ومدى فهمه العميق لتعاليم الدين السمحة القائمة على الكرم والتراحم وقرى الضيف والتكفل بالمساكين ، وقد فتح الدين الإسلامي باب الإنفاق على مصراعيه ففرض الزكاة وأمر بالإنفاق لتكفير اليمين أو كفارة الصوم ، وقد عرف مجتمعنا بتمسكه بمبادىء الدين الإسلامي وتطبيقها في سلوك الفرد والمجتمع .

ورغم هذه العوامل التي حالت دون إستفحال ظاهرة التسول في المجتمعات البدوية  إلا أن العقل البشري حباه الله بقدرة فائقة على التحليل لإستنباط المخارج والحلول الوسطية والقدرة على أستغلال المواقف وتضليل الرأي ، بل تجاوزت تلك العبقرية إلى درجة التحكم في الظواهر .

ويعتبر البعض  ذلك تحايلا معقلنا نورد منه ظاهرة التحايل على التسول  والتستر خلف المكانة الإجتماعية والروحية واستغلال تلك المكانة بغية التلاعب بعقول من يشعرون بالدونية فتعظيمهم لأصحاب الشأن الرفيع خلق نوعا من التسول المعروف تقليديا "بالكبظ" وهو تسول اكسبه التمويه قبولا خصوصا وأنه يمارس من طرف علية القوم .

بيد أنه بعد سنوات الجدب المتلاحقة شهد سكان الريف نزوحا إلى المدن تحت وطأة الظروف الإقتصادية الصعبة ولم يراع ذلك النزوح سنة التدرج والتباطئ حتى تتوفر المدن على آليات تمكنها من استيعاب الأمواج الوافدة إليها ، فهي كما أسلفنا مدن فتية تفتقد البنى التحتية وعاجزة عن توفير البدائل لمجتمع ألف البداوة وتنقصه المهارة والخبرة في التعامل مع المدنية .

مجتمع يجد نفسه بين عشية وضحاها في عالم جديد لم يتعايش معه ولا يستطيع فهمه إلا بعد ترو، عالم تتواجه فيه شعوب  وتتلاقح فيه قيم متباينة حيث يجد الإنسان الظروف ملائمة كي يتحلل من كل الأعراف والتقاليد التي تربى في أحضانها ، وينهل من معين قيم جديدة ولو على حساب ما كان يحسبه المجتمع خطوطا محظورة.

وتظل المدينة بيئة جامعة تحتضن الغث والسمين ، وتتسع فيها الهوة بين الغني والفقير وتتولد من صميم التراكمات ثقافات جديدة متنوعة فيصبح الباب مفتوحا على مصراعيه أمام مفاهيم حديثة ضاربة في التطرف.

ومن قلب هذه التراكمات نمت ظاهرة التسول وترعرعت في ظل اضمحلال قيم المجتمع الرادعة والإنسجام بين ثنائيتي الفضيلة والرذيلة حيث تلاشت مبادىء المجتمع  المحافظ ، وأخذت إنسيابية المجتمع المفتوح في التجلي ، وبما أن ظاهرة التسول اضحت أمرا مشاعا فلا بد أن نعرف الأسباب التي أدت إلى تعمقها ومجال أتساعها والنماذج الشائعة التي تطفو على السطح وانماط العلاجات التي تم اتخاذها للحد من هذه الظاهرة ، ثم التسول الوارد إلينا .

وللإجابة على هذه التساؤلات فإن ثمة أمور وتراكمات أفضت إلى تجذر هذه الظاهرة فالكثافة السكانية داخل المدن و التجاذبات  الإجتماعية كلها أمور أدت إلى ولوج أخلاق ومسلكيات جديدة أضعفت إلى حد كبير الخلفية العقدية وأثرت على روح التسامي والإباء  التي ظلت إرثا منتقى من عادات وتقاليد الأمة فلم يعد الفرد يخجل او يحس بإنكسار النفس وتأنيب الضمير وهو يمارس سلوكا غريبا على مرجعيته الأخلاقية الآخذة في الإندثار ، ضف إلى ذلك أن هذا التضخم أدى إلى تعقد الحياة الجديدة ، فإنعدام المؤسسات ساهم إلى استفحال ظاهرة البطالة ، وتأثير البداوة حال دون تأهيل الأفراد تأهيلا يخلق منهم  اليد العاملة الفاعلة وعجز المدينة عن استيعاب السكان بسبب تواضع البنى التحتية .

هذه وغيرها أمور خلقت وضعا اقتصاديا صعبا تولد عنه ضعف القوة الشرائية فأنتشرت المجاعة وأخذ الفارق بين الأغنياء والفقراء يتسع ، وبرز جيل جديد يتسكع  في الطرقات بحثا عن ما يسد به رمقه .

 وفي اللوحة المقابلة تزداد الفيئة الأخرى غنى  حيث يتباهون فيما بينهم بقصورهم الشامخة التي تناضح الجوزاء وتزاحم الشمس في الجلاء ، رجال إنتفخت  جيوبهم وأتخمت بطونهم،  وفي المشهد المقابل أسر تعاني الأمرين الجوع والمرض .

وإذا سمونا بقدرهم يوما اسكناهم بيوتا أوهن من بيوت العنكبوت وكسوناهم خرقا رثة بالية وأطعمناهم وجبات تعافها القطط .

أما تبعات التعليم  المتهالك فقد كان لها  هي الأخرى النصيب الأوفر  من إرث التسول الذي يعد من أعتى الأمراض الإجتماعية  السائدة ، فقد أجمع القاصي والداني على أن التعليم في موريتانيا وصل إلى درجة الحضيض وإن لم يكن قد لفظ انفاسه الأخيرة فإنه يعاني معانات لم تفلح المنتديات التشاورية في الحد من تأثيرها  ، وقد أدى هذا الإنهيار إلى ضياع الأطفال فشاعت ظاهرت التسرب وأضحى الأطفال ضحية للإهمال واللامبالات مما جعلهم لغمة سائغة لغول الفضائيات الخليعة والإعلام الضائع وتولدت لديهم الرغبة الجامحة إلى كسب المال بشتى الطرق المتطرفة ، فتارة تشكيل عصابات مدربة على السطو والسرقة وتارة امتهان التسول ، كما أن بعض الآباء الذين يحبذون ممارسة التسول يستغلون  تسرب الأطفال وانقطاعهم عن الدراسة مبررا لخلق بديل عن ذلك الفراغ هو في نظرهم امتهان التسول فاصبحت الشوارع تزخر بالاطفال اليافعين .

كما أن التفكك الأسري لعب دورا لا يستهان به في ترسيخ الفقر وتشريد الأطفال وتسربهم  من الدراسة ولا أدل على ذلك  من دراسة قام بها مدير مدرسة الشيخ محمد فاضل خلال السنة الدراسية 2012 ـ2013 افضت هذه الدراسة إلى أن عدد الاطفال الذين يعيشون تحت رعاية الأمهات بعد التفكك الأسري يساوي  1 على 5 من تلاميذ مدرسة الشيخ محمد فاضل وعدد المتسربين في الفصل الأخير من السنة الدراسية 2012 ـ2013 وصل إلى 18 في المائة .

إذا ماهو البديل لأطفال  يعيشون في كنف أرامل أو مطلقات ومهما يكن فإنهن  يعشن  في ظروف صعبة تتحطهم فيها  صخرة اصحاب العضلات المفتولة على واقع اقتصادي معقد .

البديل بين فإما الإرتماء في احضان عصابات السطو أو تأبط حقائب التسول أو التشرد في المتاهات مع اطفال الشوارع والأزقة .

أما المشاهد المرئية التي تعكس هذه الظاهرة بكل تجلياتها فقل أن يخلو مكان داخل المدن إلا ويحتضن لفيفا من المتسولين          يتباينون من حيث الشكل  فمنهم الشيخ الهرم الذي احدودب ظهره وضعف بصره يسير على قدميه وفي مشيته غزل ومنهم نساء تأبطن صغارهن منظرهن كئيب تعلوهم سمات الفاقة والضنك ومنهم المعوق الأحادي القدم ومن يمشي على أربع أو يحبو على بطنه أو ضرير أعياه الزمن ومنهم اسر جاثمين في منتصف الطرق ، ومنهم صغار من مختلف الأعمار ترتسم البراءة على وجوههم ومنهم شباب في زهرة العمر وميوعة الصبى ومنهم أقوياء .

تعددت الأشكال وتباينت الأعمار ولكن الهدف واحد يكمن  في سؤال الآخرين ، كل يحكي حكاية يندى لها الجبين ويتمزق من هولها القلب .

مشاهدا تزداد عمقا وتترك جروحا مؤلمة تعطي صورا مشوهة عن  بلد ظل وإلى الأمس القريب مرتعا للنبل والشهامة ، فبالأمس كنا بلد المليون مليون شاعر ونخشى أن نصير اليوم بلد مليون متسول.

لقد شكل المتسولون فرق أستقبال يطوفون بالضيوف الوافدين إلى الوطن على ارصفة المطار وفي قاعات الضيافة والإستقبال،  كل قادم يقرأ من خلال قسمات اوجههم التي اتعستها الفاقة أو التحايل ، الوجه الآخر لموريتانيا ويودعون كل من يفد إلى مرائب النقل الحضري .

أما عباد الرحمن معمروا مساجد الله فإنهم تعودوا أن يحيوا المتسولين  المتجمهرين على عتبات كل مسجد قبل أن يحيوا المسجد بركعتي السنة المألوفة ، طوابير المتسولين من شتى الأصناف يجوبون بحقائبهم باحات المساجد  في حركات استعراضية تنم عن خبرة فائقة في مهارة التسول ، أما نقاط تقاطع الطرق فتشكل معرضا يطلع المار من خلاله على مختلف تشكلات المتسولين يتحركون عبر نتوءات وتجاعيد بين السيارات يقطفون من ثمن مايجود به الركاب من نقود.

ثم تمخضت ثورات الربيع العربي لتقذف موريتانيا بما افرزته حممها من لاجئين حيث

برز أخيرا نمط جديد من التسول جاء وليدا للربيع العربي الذي ترك أثرا بالغا لم تسلم الدول النائية من آثاره حيث توافدت أعداد كبيرة من المتسولين قادمين من المناطق التي تشهد ثورات الدم فلم يكن أمام هؤلاء الذين كانوا بالأمس مكرمين في أوطانهم واضحوا اليوم  مشردين في أنواكشوط ليس أمامهم إلا أن يمدوا يد التسول ليكسبوا لقمة العيش فأزدادت ظاهرة التسول تعقيدا ومثلت خطرا على سمعة البلد مما ولد الرغبة إلى حلول جذرية توقف تمدد هذه الظاهرة وتخلق بدائل فاعلة تفضي إلى إقلاع المتسولين عن هذه الممارسات الشائنة .

وفي هذا المضمار قامت الدولة بإنشاء هيئة وطنية للتكفل بالمتسولين وأقامت مركزا لإيوائهم إلا أن ذلك الإجراء لم يعمر طويلا فسرعان ماتحول إلى مطاردات بين الشرطة والمتسولين ، فالدولة ترى أنها أنشأت مراكز مزودة بما يوفر عيشا رغيدا لهم .

أما المتسولون فيرون أن ما تم هو عبارة عن مسرحية مموهة ، فمراكز الإيواء يوفر فيها الغذاء والثياب والعلاج والمأوى للمتسولين ، ولكن تبقى أسرهم في أكواخ بالية يفتقدون أبسط مقومات الحياة ، فهم لا يريدون العيش الرغيد لهم كأفراد بينما يبقى أطفالهم يتذمرون جوعا وعطشا ، و يساقطون مرضا وألما .

 إنهم ما امتهنوا وضحوا باعراضهم إلا من اجل مؤونة اطفالهم .

  المتسولون يرون أنهم أهانوا أنفسهم وأذلوها ولكن مقابل مبالغ مالية معتبرة يجنونها من أياد سخرها المنون لتدر عليهم نفعا  ، فالواهم بحق والسابح في أحلام يقظته هو من يحاول قطع أرزاقهم  والمبادرات المبذولة وهيئات التكفل المزعومة لا تعدو كونها ضربا من الخداع والمغالطات لن تخدعهم ولن تردعهم عن سلوك أمتهنوه وجنوا منه أرباحا طائلة .

بينما الرأي الآخر يرى أن التسول اصبح ثقافة وذوقا تجد فيه تلك الطبقة إشباعا لرغبات دفينة في وجداناتهم وفيه متعة وهواية تلبي رغباتهم النفسية وحوائجهم المادية ، إنه سلاح من صميم الحياة يضرب على الوتر الحساس ويتغلغل في مواطن الإستجابة ويقضي على أوقات الفراق ، فيه سباق دائم بين أطياف المتسولين إلى جيوب المستهدفين .

ومهما كثرت التحليلات فإن هذه الظاهرة لم تشغل حيزا كبيرا من اهتمامات النخبة الحاكمة رغم مخاطرها على مستقبل الدولة واستهدافها لثوابت المجتمع ، فإذا كان شيوع الرشوة وأنتشار الفساد قد أثارت الإنتباه وشغلت أذهان النخب المتعاقبة بإعتبارهما السبب في التلاعب بثروات البلد والعبث بمقدراته فإن التسول سلوك بغيض يستهدف الإستهتار بأخلاق وفضائل شعب رضع من زلال الفضيلة حتى الثمالة .

وقد وضع الدين الإسلامي مقاربة حجمت التسول في زاوية ضيقة ، ففي الحديث الشريف ما معناه أن المرأ خير له أن يأخذ حبلا فيحتطب من سؤال الآخرين أعطوه أو منعوه.

فهذه الظاهرة تتطلب منتديات متواصلة تشارك فيها النخب المثقفة والطيف السياسي ومنظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال ويتم فيها إشراك المتسولين ، ولكن ينبغي أن يتسم هذا الحوار بالشمولية والجدية تتم فيه إثارة الأسباب المؤدية لإستفحال هذه الظاهرة ويحمل فيه من قصر تبعات تفريطه ، وإذا لم تكن التجارب المستخلصة من فشل المنتديات السابقة حاضرة في المشهد حيث إذا تم تجريد هذه المنتديات من الصخب الإعلامي والإستهلاك المحلي فإن الباقي قشور وحثالات وما نحن من مهزلة منتديات إصلاح التعليم ببعيد وكي نستخلص العبر فلا بد أن يجرى الحوار في جو من الصراحة والصرامة والصدق .

ويبقى الأهم أستئصال الأسباب الكامنة وراء التسول التي من أبرزها أنتشار الفقر وتجذره ومحاولة التستر عليه من طرف الطبقة الحاكمة التي ترى أن البلد بخير وأن المنجزات الواعدة كفيلة بأن توفر نقلة نوعية في إتجاه الرفاهية ، إلا أن الإرتفاع الصاروخي للأسعار أضعف كاهل القوة الشرائية للمواطن وأنتشار الفساد والعبث بقدرات البلد كلها أمور أوقفت سفينة التقدم وتركت بصماتها على خريجي الجامعات الذين يموجون ولم يبق أمامهم بصيص أمل نظرا لعدم وجود أسواق عمل ويتضائل الرجاء في تكافىء  الفرص .

هذه أمور تهدد بإتساع رقعة التسول في غياب حلول ناجعة فتتولد مخاوف جديدة من تطور هذه الظواهر إلى أغراض أخرى أخطر .

أخشى أن يتطور التسول إلى رحيق سام يمتزج فيه التسول بالسطو أو الشعور بالغبن والحرمان إلى الرغبة في القتل والإنتقام وطبيعي أنه كلما شعر المواطن بالمعانات والتهميش وأحس بعدم الإنصاف والإزدواجية في أعتماد المعايير نمت في سلوكه العدوانية وعاش في أخيلته صراعا بين العقل والأحاسيس وبين نكران الذات والشعور بالأنا ، وقد يقول البعض أن هذا التحليل ضخم هذه الظاهرة وأعطاها بعدا أكبر مما تستحق فالتسول لايعدو كونه حالة عادية تعبر عن ضعف في المستوى المادي أدى بأقوام إلى طلب المساعدة والدعم من الآخرين ، وخصوصا أن مجتمعنا ألف أنماطا من الإيثار والتآزر في الضراء ، وهذه قراءة تستحق التقدير إلا أن الأمر يتطلب دراسة أكثر دقة

 

الضمير"نواكشوط" : شهدت المدن الموريتانية تحولات استراتيجية هامة ، فبعد أن اتسمت حياتهم بالنشاط والقدرة الفائقة على التكيف مع حياة الريف حتى أضحى التفاعل مع الظروف البيئية والمناخية والإقتصادية يحدث بتلقائية دون دراسة أو تخطيط وكأنه تفاعل  يقع برمية من غير رام ، إلا أن الإستعمار وماترتب عنه من مؤثرات وكذلك الثورة الصناعية الحديثة ، كلها أمور ساهمت في بروز الدولة كبديل إستراتيجي عن التقسيمات القبلية والإجتماعية التي كانت سائدة .

فقد عرف الموريتانيون المدن الحديثة لأول وهلة ، ولكنها مدن برزت إلى الوجود في ظرف زماني تنعدم فيه المصادر البشرية ذات الكفاءات اللازمة ، فما احدثته المدينة الجديدة من وقع شكل همسات وأجراسا في آذان المتلقين ، إذا انضافت إليه مخلفات الجفاف التي أتت على الزرع والضرع فجفت منابع العيش وفقد الريف نكهته .

هذه عوامل وغيرها افضت إلى النزوح السكاني من حياتهم الأولى التي ألفوها ، وأستطاعوا أن يذللوا مصاعبها إلى حياة مدنية جديدة عليهم  ، فأكتظت المدن وتولدت تراكمات كثيرة في شتى المجالات ، وبرزت متطلبات جديدة للحياة الضرورية ، فللصحة والتمدرس والمأوى نصيب الأسد ، ويحتل فيها الماء الصدارة أيضا .

وانعكست الأعمال المدرة للنفع  : من ترويض الحيوان وتطويع الأرض إلى ضرورة ولوج سوق العمل بأذرع مفتولة ومهارات خلاقة ، ولكن عمق الفجائية في تسارع الهجرات سبب إرباكا مخلا للمدن أدى إلى تعقد المشهد فتولد عنه إنعدام فرص العمل ، ومن ثم تعاظم غول البطالة فأصبحت الأرضية خصبة لإيواء كم هائل من الامراض الجديدة على مجتمعنا مثل التسول الذي يعد اليوم ظاهرة مألوفة فرضت نفسها في عمق النسيج الإجتماعي في المدن الموريتانية الفتية التي شهدت إنسيابية في القيم لا تتناسب في تسارع وتيرتها مع حداثة نشأتها .

ومعلوم أن مجتمعنا تمتع ببداوته ردحا من الزمان ممتطيا صهوة الترحال تبعا لما تجود به السماء من عصب الحياة ، وقد إنعكس عدم الإستقرار والتنقل على الواقع القبلي فكانت كل قبيلة تجد نفسها موزعة إلى كتل وعشائر تنتشر في الأرض بحثا عن الكلإ ، ضف إلى ذلك حجم التنافس الإيجابي المألوف بين المجتمعات .

إنه تنافس في القيم التي هي في  الميتلوجيا الوطنية منظمومة من المبادئ تقوم على الأعراف والتقاليد ، فيها تتباهى العشائر بالقناعة شعورا بالفوقية ، فروح الإيباء لديهم تأبى الضيم والشعور بالكبرياء ولد في نفوسهم إحساسا بالتسامي عن كل مايعتبرونه وصمة عار تؤرقهم وتقض من مضجعهم في مجتمع اعرافه لا ترحم ، كل فرد منه تربعت في وجدانه الفسيح محكمة تستمد في  احكامها على منظومة من المثل مثلت شرعة أمة .

 فكم من أقوام حلت بهم لعنة المجتمع فعاشوا منبوذين وتركوا لأحفادهم إرثا ثقيلا تلاحقهم نظرات الإحتقار ، ورغم أنهم ما جنوا على أحد إلا أن بصمات الرذيلة تضرب مخالبها بعمق في سلالات أزلامها ، فلا ينجو من تأثير سمها رضيع من احفاد تلك الفصيلة فسلاحها أشد وقعا .

إنه سلاح ذو حدين يصيب الضحية ولاتسلم من سهامه النافذة  الأجيال اللاحقة  ، ومهما كان عمق الفاقة فإن الفرد لايستطيع أن يتأبط حقيقة التسول وذلك لعوامل عديدة :

اـ محدودية حجم العشيرة مما أفقده الستار اللازم للإختفاء فعين المجتمع تتابعه أنى توجه ، وهاجس  لعنة القبيلة ماثل أمام أخيلته ، يعتبر نظرة المجتمع سلاحا يترصده ،فلو كان ثمة كثافة سكانية لأمكنه الإختفاء والتستر خلف ضباب تلك الكثافة عن الأنظار فيفعل مايشاء ووفق ما يشاء بعيدا عن الضوابط  ، ويسلم من مقابلة ليست متكافئة طرفها الأول فرد مسلوب الإرادة ضعيف أعياه الزمن فشعر بألم الفاقة .

والطرف الثاني المجتمع بأطيافه وأحكامه القاسية .

ب ـ تضخم الأنا والشعور بالذات ونمو روح الكبرياء وكلها سمات بارزة شكلت واقعا معقدا يصعب تجاوزه .

ومن حاول التجرد  من ذلك الإحساس الكثيف الذي اصبح جزء من الذات وخيطا متينا يتم به حبك الشخصية في طورها المتعالي الذي يسمو عن الخطيئة ويستخدم طلاء الفضيلة كصبغة يستحيل معها تسرب ما يعافه المجتمع من سلوك وأفعال .

ج ـ بساطة الحياة وسهولة العيش كلها أمور ساهمت إلى حد كبير في تبسيط مؤونة العيش ، فالأغذية المفضلة هي اللحوم والألبان والحبوب وهي أغذية تساعد الطبيعة والترحال في توفيرها .

فالعيش لا يتطلب العمل المتواصل والبحث الجاد عن مصادر توفر الحياة الكريمة لأن الأرض تجود بما وهبها الله والحيوانات مجبولة سخرها عزيز مقتدر لتدر من عطاءها حيث لا يحتاج المرأ إلى عقود عمل .

الطبيعة معطاة لا تخص بعطاءها أحدا دون الآخر ، ولا تبغي جزاءا ولا شكورا حالها كما قال الشاعر :

إن الحياة حبتك كل كنوزها ....     لاتبخلن على الحياة ببعض مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

من ذا يكافيء زهرة فواحة ...     أو من يثيب البلبل المترنمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

 

د ـ ما أتسم به المجتمع من كرم وإيثار وتعاون وتآزر في السراء والضراء  ومدى فهمه العميق لتعاليم الدين السمحة القائمة على الكرم والتراحم وقرى الضيف والتكفل بالمساكين ، وقد فتح الدين الإسلامي باب الإنفاق على مصراعيه ففرض الزكاة وأمر بالإنفاق لتكفير اليمين أو كفارة الصوم ، وقد عرف مجتمعنا بتمسكه بمبادىء الدين الإسلامي وتطبيقها في سلوك الفرد والمجتمع .

ورغم هذه العوامل التي حالت دون إستفحال ظاهرة التسول في المجتمعات البدوية  إلا أن العقل البشري حباه الله بقدرة فائقة على التحليل لإستنباط المخارج والحلول الوسطية والقدرة على أستغلال المواقف وتضليل الرأي ، بل تجاوزت تلك العبقرية إلى درجة التحكم في الظواهر .

ويعتبر البعض  ذلك تحايلا معقلنا نورد منه ظاهرة التحايل على التسول  والتستر خلف المكانة الإجتماعية والروحية واستغلال تلك المكانة بغية التلاعب بعقول من يشعرون بالدونية فتعظيمهم لأصحاب الشأن الرفيع خلق نوعا من التسول المعروف تقليديا "بالكبظ" وهو تسول اكسبه التمويه قبولا خصوصا وأنه يمارس من طرف علية القوم .

بيد أنه بعد سنوات الجدب المتلاحقة شهد سكان الريف نزوحا إلى المدن تحت وطأة الظروف الإقتصادية الصعبة ولم يراع ذلك النزوح سنة التدرج والتباطئ حتى تتوفر المدن على آليات تمكنها من استيعاب الأمواج الوافدة إليها ، فهي كما أسلفنا مدن فتية تفتقد البنى التحتية وعاجزة عن توفير البدائل لمجتمع ألف البداوة وتنقصه المهارة والخبرة في التعامل مع المدنية .

مجتمع يجد نفسه بين عشية وضحاها في عالم جديد لم يتعايش معه ولا يستطيع فهمه إلا بعد ترو، عالم تتواجه فيه شعوب  وتتلاقح فيه قيم متباينة حيث يجد الإنسان الظروف ملائمة كي يتحلل من كل الأعراف والتقاليد التي تربى في أحضانها ، وينهل من معين قيم جديدة ولو على حساب ما كان يحسبه المجتمع خطوطا محظورة.

وتظل المدينة بيئة جامعة تحتضن الغث والسمين ، وتتسع فيها الهوة بين الغني والفقير وتتولد من صميم التراكمات ثقافات جديدة متنوعة فيصبح الباب مفتوحا على مصراعيه أمام مفاهيم حديثة ضاربة في التطرف.

ومن قلب هذه التراكمات نمت ظاهرة التسول وترعرعت في ظل اضمحلال قيم المجتمع الرادعة والإنسجام بين ثنائيتي الفضيلة والرذيلة حيث تلاشت مبادىء المجتمع  المحافظ ، وأخذت إنسيابية المجتمع المفتوح في التجلي ، وبما أن ظاهرة التسول اضحت أمرا مشاعا فلا بد أن نعرف الأسباب التي أدت إلى تعمقها ومجال أتساعها والنماذج الشائعة التي تطفو على السطح وانماط العلاجات التي تم اتخاذها للحد من هذه الظاهرة ، ثم التسول الوارد إلينا .

وللإجابة على هذه التساؤلات فإن ثمة أمور وتراكمات أفضت إلى تجذر هذه الظاهرة فالكثافة السكانية داخل المدن و التجاذبات  الإجتماعية كلها أمور أدت إلى ولوج أخلاق ومسلكيات جديدة أضعفت إلى حد كبير الخلفية العقدية وأثرت على روح التسامي والإباء  التي ظلت إرثا منتقى من عادات وتقاليد الأمة فلم يعد الفرد يخجل او يحس بإنكسار النفس وتأنيب الضمير وهو يمارس سلوكا غريبا على مرجعيته الأخلاقية الآخذة في الإندثار ، ضف إلى ذلك أن هذا التضخم أدى إلى تعقد الحياة الجديدة ، فإنعدام المؤسسات ساهم إلى استفحال ظاهرة البطالة ، وتأثير البداوة حال دون تأهيل الأفراد تأهيلا يخلق منهم  اليد العاملة الفاعلة وعجز المدينة عن استيعاب السكان بسبب تواضع البنى التحتية .

هذه وغيرها أمور خلقت وضعا اقتصاديا صعبا تولد عنه ضعف القوة الشرائية فأنتشرت المجاعة وأخذ الفارق بين الأغنياء والفقراء يتسع ، وبرز جيل جديد يتسكع  في الطرقات بحثا عن ما يسد به رمقه .

 وفي اللوحة المقابلة تزداد الفيئة الأخرى غنى  حيث يتباهون فيما بينهم بقصورهم الشامخة التي تناضح الجوزاء وتزاحم الشمس في الجلاء ، رجال إنتفخت  جيوبهم وأتخمت بطونهم،  وفي المشهد المقابل أسر تعاني الأمرين الجوع والمرض .

وإذا سمونا بقدرهم يوما اسكناهم بيوتا أوهن من بيوت العنكبوت وكسوناهم خرقا رثة بالية وأطعمناهم وجبات تعافها القطط .

أما تبعات التعليم  المتهالك فقد كان لها  هي الأخرى النصيب الأوفر  من إرث التسول الذي يعد من أعتى الأمراض الإجتماعية  السائدة ، فقد أجمع القاصي والداني على أن التعليم في موريتانيا وصل إلى درجة الحضيض وإن لم يكن قد لفظ انفاسه الأخيرة فإنه يعاني معانات لم تفلح المنتديات التشاورية في الحد من تأثيرها  ، وقد أدى هذا الإنهيار إلى ضياع الأطفال فشاعت ظاهرت التسرب وأضحى الأطفال ضحية للإهمال واللامبالات مما جعلهم لغمة سائغة لغول الفضائيات الخليعة والإعلام الضائع وتولدت لديهم الرغبة الجامحة إلى كسب المال بشتى الطرق المتطرفة ، فتارة تشكيل عصابات مدربة على السطو والسرقة وتارة امتهان التسول ، كما أن بعض الآباء الذين يحبذون ممارسة التسول يستغلون  تسرب الأطفال وانقطاعهم عن الدراسة مبررا لخلق بديل عن ذلك الفراغ هو في نظرهم امتهان التسول فاصبحت الشوارع تزخر بالاطفال اليافعين .

كما أن التفكك الأسري لعب دورا لا يستهان به في ترسيخ الفقر وتشريد الأطفال وتسربهم  من الدراسة ولا أدل على ذلك  من دراسة قام بها مدير مدرسة الشيخ محمد فاضل خلال السنة الدراسية 2012 ـ2013 افضت هذه الدراسة إلى أن عدد الاطفال الذين يعيشون تحت رعاية الأمهات بعد التفكك الأسري يساوي  1 على 5 من تلاميذ مدرسة الشيخ محمد فاضل وعدد المتسربين في الفصل الأخير من السنة الدراسية 2012 ـ2013 وصل إلى 18 في المائة .

إذا ماهو البديل لأطفال  يعيشون في كنف أرامل أو مطلقات ومهما يكن فإنهن  يعشن  في ظروف صعبة تتحطهم فيها  صخرة اصحاب العضلات المفتولة على واقع اقتصادي معقد .

البديل بين فإما الإرتماء في احضان عصابات السطو أو تأبط حقائب التسول أو التشرد في المتاهات مع اطفال الشوارع والأزقة .

أما المشاهد المرئية التي تعكس هذه الظاهرة بكل تجلياتها فقل أن يخلو مكان داخل المدن إلا ويحتضن لفيفا من المتسولين          يتباينون من حيث الشكل  فمنهم الشيخ الهرم الذي احدودب ظهره وضعف بصره يسير على قدميه وفي مشيته غزل ومنهم نساء تأبطن صغارهن منظرهن كئيب تعلوهم سمات الفاقة والضنك ومنهم المعوق الأحادي القدم ومن يمشي على أربع أو يحبو على بطنه أو ضرير أعياه الزمن ومنهم اسر جاثمين في منتصف الطرق ، ومنهم صغار من مختلف الأعمار ترتسم البراءة على وجوههم ومنهم شباب في زهرة العمر وميوعة الصبى ومنهم أقوياء .

تعددت الأشكال وتباينت الأعمار ولكن الهدف واحد يكمن  في سؤال الآخرين ، كل يحكي حكاية يندى لها الجبين ويتمزق من هولها القلب .

مشاهدا تزداد عمقا وتترك جروحا مؤلمة تعطي صورا مشوهة عن  بلد ظل وإلى الأمس القريب مرتعا للنبل والشهامة ، فبالأمس كنا بلد المليون مليون شاعر ونخشى أن نصير اليوم بلد مليون متسول.

لقد شكل المتسولون فرق أستقبال يطوفون بالضيوف الوافدين إلى الوطن على ارصفة المطار وفي قاعات الضيافة والإستقبال،  كل قادم يقرأ من خلال قسمات اوجههم التي اتعستها الفاقة أو التحايل ، الوجه الآخر لموريتانيا ويودعون كل من يفد إلى مرائب النقل الحضري .

أما عباد الرحمن معمروا مساجد الله فإنهم تعودوا أن يحيوا المتسولين  المتجمهرين على عتبات كل مسجد قبل أن يحيوا المسجد بركعتي السنة المألوفة ، طوابير المتسولين من شتى الأصناف يجوبون بحقائبهم باحات المساجد  في حركات استعراضية تنم عن خبرة فائقة في مهارة التسول ، أما نقاط تقاطع الطرق فتشكل معرضا يطلع المار من خلاله على مختلف تشكلات المتسولين يتحركون عبر نتوءات وتجاعيد بين السيارات يقطفون من ثمن مايجود به الركاب من نقود.

ثم تمخضت ثورات الربيع العربي لتقذف موريتانيا بما افرزته حممها من لاجئين حيث

برز أخيرا نمط جديد من التسول جاء وليدا للربيع العربي الذي ترك أثرا بالغا لم تسلم الدول النائية من آثاره حيث توافدت أعداد كبيرة من المتسولين قادمين من المناطق التي تشهد ثورات الدم فلم يكن أمام هؤلاء الذين كانوا بالأمس مكرمين في أوطانهم واضحوا اليوم  مشردين في أنواكشوط ليس أمامهم إلا أن يمدوا يد التسول ليكسبوا لقمة العيش فأزدادت ظاهرة التسول تعقيدا ومثلت خطرا على سمعة البلد مما ولد الرغبة إلى حلول جذرية توقف تمدد هذه الظاهرة وتخلق بدائل فاعلة تفضي إلى إقلاع المتسولين عن هذه الممارسات الشائنة .

وفي هذا المضمار قامت الدولة بإنشاء هيئة وطنية للتكفل بالمتسولين وأقامت مركزا لإيوائهم إلا أن ذلك الإجراء لم يعمر طويلا فسرعان ماتحول إلى مطاردات بين الشرطة والمتسولين ، فالدولة ترى أنها أنشأت مراكز مزودة بما يوفر عيشا رغيدا لهم .

أما المتسولون فيرون أن ما تم هو عبارة عن مسرحية مموهة ، فمراكز الإيواء يوفر فيها الغذاء والثياب والعلاج والمأوى للمتسولين ، ولكن تبقى أسرهم في أكواخ بالية يفتقدون أبسط مقومات الحياة ، فهم لا يريدون العيش الرغيد لهم كأفراد بينما يبقى أطفالهم يتذمرون جوعا وعطشا ، و يساقطون مرضا وألما .

 إنهم ما امتهنوا وضحوا باعراضهم إلا من اجل مؤونة اطفالهم .

  المتسولون يرون أنهم أهانوا أنفسهم وأذلوها ولكن مقابل مبالغ مالية معتبرة يجنونها من أياد سخرها المنون لتدر عليهم نفعا  ، فالواهم بحق والسابح في أحلام يقظته هو من يحاول قطع أرزاقهم  والمبادرات المبذولة وهيئات التكفل المزعومة لا تعدو كونها ضربا من الخداع والمغالطات لن تخدعهم ولن تردعهم عن سلوك أمتهنوه وجنوا منه أرباحا طائلة .

بينما الرأي الآخر يرى أن التسول اصبح ثقافة وذوقا تجد فيه تلك الطبقة إشباعا لرغبات دفينة في وجداناتهم وفيه متعة وهواية تلبي رغباتهم النفسية وحوائجهم المادية ، إنه سلاح من صميم الحياة يضرب على الوتر الحساس ويتغلغل في مواطن الإستجابة ويقضي على أوقات الفراق ، فيه سباق دائم بين أطياف المتسولين إلى جيوب المستهدفين .

ومهما كثرت التحليلات فإن هذه الظاهرة لم تشغل حيزا كبيرا من اهتمامات النخبة الحاكمة رغم مخاطرها على مستقبل الدولة واستهدافها لثوابت المجتمع ، فإذا كان شيوع الرشوة وأنتشار الفساد قد أثارت الإنتباه وشغلت أذهان النخب المتعاقبة بإعتبارهما السبب في التلاعب بثروات البلد والعبث بمقدراته فإن التسول سلوك بغيض يستهدف الإستهتار بأخلاق وفضائل شعب رضع من زلال الفضيلة حتى الثمالة .

وقد وضع الدين الإسلامي مقاربة حجمت التسول في زاوية ضيقة ، ففي الحديث الشريف ما معناه أن المرأ خير له أن يأخذ حبلا فيحتطب من سؤال الآخرين أعطوه أو منعوه.

فهذه الظاهرة تتطلب منتديات متواصلة تشارك فيها النخب المثقفة والطيف السياسي ومنظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال ويتم فيها إشراك المتسولين ، ولكن ينبغي أن يتسم هذا الحوار بالشمولية والجدية تتم فيه إثارة الأسباب المؤدية لإستفحال هذه الظاهرة ويحمل فيه من قصر تبعات تفريطه ، وإذا لم تكن التجارب المستخلصة من فشل المنتديات السابقة حاضرة في المشهد حيث إذا تم تجريد هذه المنتديات من الصخب الإعلامي والإستهلاك المحلي فإن الباقي قشور وحثالات وما نحن من مهزلة منتديات إصلاح التعليم ببعيد وكي نستخلص العبر فلا بد أن يجرى الحوار في جو من الصراحة والصرامة والصدق .

ويبقى الأهم أستئصال الأسباب الكامنة وراء التسول التي من أبرزها أنتشار الفقر وتجذره ومحاولة التستر عليه من طرف الطبقة الحاكمة التي ترى أن البلد بخير وأن المنجزات الواعدة كفيلة بأن توفر نقلة نوعية في إتجاه الرفاهية ، إلا أن الإرتفاع الصاروخي للأسعار أضعف كاهل القوة الشرائية للمواطن وأنتشار الفساد والعبث بقدرات البلد كلها أمور أوقفت سفينة التقدم وتركت بصماتها على خريجي الجامعات الذين يموجون ولم يبق أمامهم بصيص أمل نظرا لعدم وجود أسواق عمل ويتضائل الرجاء في تكافىء  الفرص .

هذه أمور تهدد بإتساع رقعة التسول في غياب حلول ناجعة فتتولد مخاوف جديدة من تطور هذه الظواهر إلى أغراض أخرى أخطر .

أخشى أن يتطور التسول إلى رحيق سام يمتزج فيه التسول بالسطو أو الشعور بالغبن والحرمان إلى الرغبة في القتل والإنتقام وطبيعي أنه كلما شعر المواطن بالمعانات والتهميش وأحس بعدم الإنصاف والإزدواجية في أعتماد المعايير نمت في سلوكه العدوانية وعاش في أخيلته صراعا بين العقل والأحاسيس وبين نكران الذات والشعور بالأنا ، وقد يقول البعض أن هذا التحليل ضخم هذه الظاهرة وأعطاها بعدا أكبر مما تستحق فالتسول لايعدو كونه حالة عادية تعبر عن ضعف في المستوى المادي أدى بأقوام إلى طلب المساعدة والدعم من الآخرين ، وخصوصا أن مجتمعنا ألف أنماطا من الإيثار والتآزر في الضراء ، وهذه قراءة تستحق التقدير إلا أن الأمر يتطلب دراسة أكثر دقة.

 إعداد : حمادي ولد الشيخ أحمد بن معزو

 

تحقيق حول ظاهرة  التسول : الدوافع ..الآثار..العلاجات