الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار(ح1)
الثلاثاء, 09 ديسمبر 2014 17:40

د. دكتور أحمد بن هارون

ahmedharoune@gmail.com

الحلقة الأولى:

المقدمة وإعلان المحاور الأساسية؛

الأسلوب المتَّبَع اليوم في تخليد المقاومة وأبطالها؛

أين نحن اليوم من أدب الاختلاف الذي كان سائدا بين أقطاب الرأيين المهادن والمقاوم؟

نازلة الاستعمار وتعقيداتها.

المقدمة والْمَحاور:

بسم الله الرحمٰن الرحيم، الحمد لله رب العـٰلمين،

والصلاة والسلام على سينا محمد خاتم النبيئين وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يقول أبو الرَّيحان محمدُ بنُ أحمدَ الخوارزميُّ البَيْرُونيُّ في كتابه المسمّى: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة": «ثم إن الخبَر عن الشيء الممكنِ الوجود في العادة الجاريةِ يقابل الصدق والكذبَ على صورة واحدة؛ وكلاهما لاحقان به من جهة المخبرين لِتفاوت الهمَم وغَلَبَة الهِراش والنزاع على الأمم. فمِنْ مُخبر عن أمر كذب يقصِد فيه نفَسه فيُعظم به جنسَها، لأنها تَحتَه، أو يقصدها فيزري بخلاف جنسه لفوزه فيه بإرادته، ومعلومٌ أن كِلا هذين من دواعي الشهوة

والغضب المذموميْن؛ ومِنْ مُخبِر عن كذب في طبقةٍ يحبهم لِشُكْرٍ أو يُبغضُهم لِنُكْرٍ؛ وهُو مقُارِب للأول، فإن الباعِث على فعله من دواعي المحبة والغَلَبَة؛ ومِن مُخبرٍ عنه مُتقرِّبا إلى خيرٍ بدناءةِ الطبع أو مُتَّقِيا لِشَرٍّ مِن فشلٍ وفَزَعٍ؛ ومن مُخبِرٍ عنه طِباعا، كَأنه محمولٌ عليه غيرُ مُتمكِّن من غيره؛ وذلك من دواعي الشَّرارَة وخُبْث مَخابِئ الطبيعة؛ ومِن مُخبرٍ عنه جَهلا، وهو المقُلِّد للمُخبرين وإن كَثروا جُملَةً أو تواتروا فِرقةً بعْد فِرقة، فهو وَهُمْ وسَائِطُ فيما بيَن السامع وبين المعتمَد الأول. والمجانبُ للكذب المُتمسكُ بالصِدق هو المحمود الممدوح عِند الكاذِب فَضْلا عن غيره. فقد قِيل: قولوا الحَق ولو على أنفُسِكم».

وفي مجتمعنا، ما زال الحديث في التاريخ والأنساب والأعلام مربوطا بالمباهاة والمجاملة والعصبيَّات البدائية، مما جعله فى منأى عن البحث الجدّي والموضوعي المدوَّن.

ومن أكثر موضوعاتنا التاريخية والسياسية استعصاء على البحث العلمي الهادئ، موضوع المقاومة، أي مقاومة الموريتانيين للاستعمار الفرنسي، لما يحويه من محاذير وأساطير وتعريضات وإطلاقات يريد أهلها، عن قصد وعن غير قصد، وضْعَها مَوضِعَ المسلَّمات وتلقينَها للعوامّ والأطفال وتأليبَهم على إخوانهم وأسلافهم من أصحاب الرأي المخالف، عبرَ الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وحتى عبر المقررات المدرسية. وهذا مما يضطرُّ المرءَ إلى الكلام في غير تخَصُّصه ومجاله.

فالدعايةُ، كما يقول كاتب الاجتماع الأمريكي إريك هوفر، لا تخدع الناس، لكنها تساعدهم على خِداع أنفسهم.

ستتعرض هذه الورقة للموضوع، بحول الله تعلى، عبر أربعة محاور وخاتمة ووثائق مُلحَقة، مع مدخل تمهيديٍّ يتحدث في جزئه الأول عن الأساليب المتّبعة اليوم في تخليد المقاومة الموريتانية وأبطالها؛ وفي الجزء الثاني عن نازلةِ الاستعمار وتعقيداتها، مع طرح بعض التساؤلات الواردة إلى الأذهان.

سيتم الحديث في المحور الأول عن حالة التسَيُّب التي سبَقت الاحتلال الفرنسي، وما عرفته تلك الحِقبة من فظائع الظُّلم والاقتتال الدائم والفوضى؛

ثم تخلُص الورقة في الجزء الثاني من هذا المحور إلى الحديث عن الخلفية الاجتماعية والشخصية للشيخ سيديَ بابَه واجتهادِه، والمكانةِ الاجتماعية والسياسية والعلمية والدينية التي ورثها، وجعلت من المستبعَد إلى حدٍّ كبير أن يكون قد اتخذ قرارا أو موقفا من هذا النوع لأغراض دُنيوية أو شخصية؛

وفي الجزء الثالث من هذا المحور، تتطرّق الورقة باختصار شديد لمذاهب الشيخ سيديَ بابَه الفقهية والعَقَدية والسلوكية والسلطانية، وكيف أدت تلك المذاهبُ غيرُ المعهودة في البلاد إلى خلق عداوات وخصومات مازالت بعضُ رواسبها موجودة في الأوساط الدينية والعلمية.

أما الجزء الرابع والأخير من هذا المحور، فهو مُخصَّصٌ للحديث عن مشروع الشيخ سيديَ الكبير وابنِه الشيخ سيدي محمد الجهادي ودعوتِهما الإصلاحية، وكيفَ استفاد الشيخ سيديَ الحفيدُ من تلك التجربة ورأى ما لاقَتْه من صعوبات وعراقيل ذاتية وموضوعية.

في المحور الثالث، يتم الكلام بشيء من التفصيل عن الأسُس الشرعية والواقعية التي بنى عليها الشيخ سيديَ بابَه موقفه: كضرورة نصب الإمام؛ وحكْم التعامل مع الكافر المتغلّب الذي لا يتعرّض لدين المسلمين، بالإضافة إلى أحكام الجهاد والهجرة بالدين وحُكمِ المعاملة مع النصارى المستعمرين، وكيف كانت علاقة الشيخ سيديَ بهم؟ وكيف كان الفرنسيون ينظرون إليه؟

ثم تخلُص الورقة في محور رابع إلى مآلات الأمور والرأي الآخر، وما كانوا يعتمدون عليه وكيف تغيرت نظرة أكثر المقاومين وتراجعوا بعد أن بَدا لهم شيءٌ آخر؟ مع شيء من الكلام عن علاقات شيوخ وأقطاب المقاومة مع النصارى المستعمرين: كالشيخ العلامة ماء العينين وأبنائه العلماء المقاومين، مع بضع النماذج من المراسلات والمعلومات والوثائق ذات الصلة.

وكذلك العلاَّمة سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ ورجوعه عن موقفه الأول بعدما تبين صوابُ المهادنة مع الفرنسيين وانعدام آفاق حقيقية لرأيه الأول.

ثم يلي ذلك كلامٌ عن التجربة الخاصة للعلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم، وكيف استصوبَ الهجرةَ بدينه أولَ الأمر وإرسالَ ذويه للمشاركة في العمليات المسلحة ضد القوات الفرنسية في أَطَارْ، وكيف تراجع بعد ذلك عن رأيه بعدما تبين له حكمٌ شرعيٌّ وواقعيٌّ آخرُ.

وختاما لهذه النماذج، تتعرض الورقة لتجربة أبناء ما يابى العلماء المهاجرين بدينهم، وما دار بينهم بعد ذهابهم إلى المغرب والمشرق من تغيُّر وجهة نظرهم في الشيخ سيديَ بابَه، مع عرض لنماذج من مراسلاتهم معه، وما صاحب ذلك من تبادُل للمدائح الشعرية والنثرية الرائقة والهدايا.

وفي الجزء الأخير من المحور الرابع، كلام عن العلاقات والاتفاقيات التي كانت تربط المستعمر الأوربيَ بالإمارات الأربع وبعض القبائل الأخرى، قديما وحديثا. مع نماذج أصلية من مراسلات الأمراء مع الفرنسيين، خصوصا أحمدو ولد سيدي ووالده وسيد احمد بن أحمد عيده وغيرهما. ثم الخاتمة.

الأسلوب المتَّبَع اليوم في تخليد المقاومة وأبطالها

مع الانفتاح الإعلاميّ الأخير وشعور الإعلام الرسمي بمنافسة الإعلام الحُرِّ له، دخل معه في لعبة التحرر والإثارة والسعي وراء موادّ حوارية وسجالات لا ضابط لها ولا أول ولا آخر... ففقد الإعلام الرسميُّ الاتِّزانَ والتحرّي ولم يدرك الحرية.

وكان لموضوع الاستعمار والمقاومة النصيب الأكبر من ذلك كله، وكأن تاريخ البلد والمجتمع وتراثهما لم يبدَءَا إلا في الأسابيع الأخيرة من سنة 1902م، حيثُ بدأ احتلال البلاد فعليا من قِبل الفرنسيين. ومع ذلك كلِّه يُسمعُ في هذا الموضوع، المحبَّبِ لدى أساتذتنا ومؤرخينا الجدُد، من الطوامّ والتناقضات، بل من السذاجة أحيانا، ما يضحك الثَّكْلى.

لقد بلغ الأمر ببعض المتحمسين للمقاومة و"المسَخَّنين" في حوارات نوفمبر حدَّ تسمية إخوانه من أصحاب المذهب المهادِنِ للمستعمر، بعملاء الاستعمار والخونة، تصريحا أو تعريضا؛ والمصرِّحون أفضل وأكثر أمانة. ولم يعد يَنْجُو من ذلك الأحفادُ والمنحدرون من أوساط اجتماعية معينة ومناطق جغرافية محدّدة. هذا مع العلم أن أكثر علماء البلاد وأمرائها وشيوخ قبائلها ذهبوا ذلك المذهب، خلافا لما يقول مؤرخو نوفمبر.

وفي ذلك يقول علاَّمة التاريخ المدقّقُ محمد بن مولود بن داداه: «(...) أما الشيخ سيدي الخير والشيخ سعد أبيه ابنا الشيخ محمد فاضل، الموجودان بأقصى الطرفيين المقابلين من بلاد شنقيطي، فإنهما قد نظرا إلى هذه النازلة من زاوية أخرى مغايرة تماما. فقد رأيا أن الشروط الأساسية لمقاومة فعالة غير متوفّرة، وأن مهادنة الفرنسيين، بالتالي، تعتبر أكثر حكمة. وقد ذهب مَذهبَهما أكثرُ المشايخ والأمراء وشيوخ القبائل»[1].

وكان الشيخ العلامة محمد سالم بن عبدالودود يقول: «لا أعلم أحدا من علماء "القبلة" خالف الشيخ سيديَ بابَه في اجتهاده القائل بمهادنة المستعمر مقابل الضمانات المعروفة، وعدَّد القبائل، الواحدةَ تلو الأخرى، فتحميله المسؤوليةَ وحدَه ظلم وإجحاف».

كما بلغ الأمر أيضا بأحد المتطرفين من نُفَاة المقاومة حدَّ الوقوف في مدرّجات الجامعة والقول أمام طلابها إن المقاومة الموريتانية أسطورة لا أساس لها. بل قام أحدهم بتسفيه ما فعله الشريف الشهيد سيدي بن مولاي الزين مِنْ قتْل الحاكم الفرنسي كبولاني، بحجة أن هذا الأخير كان ينوي إقامة دولة شاملة للبيضان!

ازداد الجوُّ سوءا وإحراجا في الأيام الأخيرة، حتى إنَّ عالما اجتماعيا متجرِّدا، من حجم عبدالودود ولد الشيخ، أثناء بَسطه لإحدى النظريات العلمية المعروفة واستشهادِه بمقولة للأنتربولوجي البريطاني إيفانس بيتشارد Evans-Pritchard القاضية بأن وسطا تحكمه القبائل لا يمكن أن نرى فيه سوى الحرب، لم يُفوِّت فرصة تلك المقابلة التلفزيونية ليعبر بسخرية عن تفاهة الشبهة التي قد يكون محلَّها لدى البعض بسبب خلفيته الاجتماعية ومنطقته الجغرافية، قائلا: «قد أكون محلّ شُبهة، لأنني أنتمي لوسط يعتبر مقرَّبا من المستعمر، وموضوعُ المقاومة أصبح مَوْضة في الأيام الأخيرة، لكن نمط الحياة الذي كان سائدا قبل الاستعمار مبنيٌّ على الحروب»[2] .

في أيامنا هذه، وعلى أمواج إحدى الإذاعات الناشئة، كان أستاذٌ يحلّل ويحكُم بأن العلماء الذين أفتوا بمهادنة المستعمر، إنما فعلوا ذلك انتقاما من العرب حمَلَةِ السلاح الذين كانوا يهمشونهم! ألا يحق للموريتانيين أن يسألوه: أيُّ هؤلاء الْمُفْتين كانت تهمشه العرَبُ أو العجمُ؟[3]

وفي أحد البرامج التلفزيونية المخلدة لذكرى الاستقلال وأمجاد المقاومة، كان أحد المتكلمين من ذوي الخيال التاريخي الواسع يَعُدُّ، من بين المجاهدين الشهداء، رجالا قاموا بعمليات سطو كبيرة شهيرة وموثَّقة ومؤلمة، وكان من بين ضحاياها علماءُ نبلاءُ وسادةٌ صُلحاءُ وطُلابُ علم وفقراءُ ومساكين... وليس هذا هو المستشكَل وحده، لاطِّراده في أدبيات نوفمبر، لكنَّ الطامَّة الكبرى هي أن "المجاهدين" المذكورين قد فعلوا فَعْلاتِهم الشنيعةَ هذه قبل دخول الاستعمار الفرنسي بسنوات، بل بعقود!

وبعد بحث شاقٍّ عن رابط يربط الغارَات المذكورة بمجاهدة النصارى، لن تجد أكثر من كونِ أولئك الضحايا سيخضعون هم وأبناؤهم، بعد ذلك بعدَّة سنوات، للاستعمار الأوربي، كغيرهم من سكان بلاد البيضان والسودان وجزيرة العرب والشام والعراقيْن والهند والسند والمغرب والجزائر وتونس...

وقد أحسن، واللهِ، العلاَّمة الشيخُ ماء العينين بنُ الشيخ محمد فاضل حين تراجع عن فتوى أصدرها، وهو في أوج حربه مع القوات الفرنسية المستعمِرة لموريتانيا، تُبيح لبعض القبائل الموالية له أموالَ من لم يهاجر من المسلمين ورضي بالعيش تحت مظلة الاستعمار. إلى أن راسله أخوه الشيخُ سعد أبيه بخطورة فتواه وما سببته من حرج للمسلمين، الذين لا يخرج خضوعهم للاستعمار عن التأوُّل أو عدم الاستطاعة، وكلُّ هذا لا يبيح انتهاك حرماتهم... فتأثر الشيخ ماء العينين بتلك الرسالة ورجع عن فتواه بكل نزاهة، محذِّرا أتباعه من التعرُّض لأموال من لم يهاجر عن الفرنسيين، قائلا: «الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله إلى جماعة الرقيبات، الجماعةِ الراضيةِ الَمرضية، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. اغزوا النصارى قبل أن يغزوكم وأخرجوا الخمس من غنائمكم ووقروا دين الله، ولن توقروه بشيء أعظم من توقير من ساكن الكفارَ من المسلمين، فإن لهم العذرَ الشرعيَّ؛ وإياكم أن تأكلوا أموال الناس بالباطل وبنا وباسم الهجرة. والسلام»[4].

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار(ح1)