أستشراقات المثقفين "يحي ولد معزو
الاثنين, 27 يناير 2014 21:01

altكلما تأملت كثيرا تراءت لي من بعيد تلك الإنسيابية الفاترة التي تمر عبر نتوءات المتغيرات في تنافر بيّن مع مجرى الثوابت والقيم ، أدركت أن المثقف هو ربان سفينتها .فيعيدني ذلك المشهد الى الساحة الثقافية الموريتانية في الثمانينات .ساحة تغلي بالعطاءات الثقافية فتفضي الى التلاقح والانسجام بين الرأي والرأي الآخر تارة ، وتارة تؤدي إلى تنافر يتمخض فينجب إبداعات متدفقة تزيد الساحة اتقادا، فيزهو المثقف بنكهة البذل ..نكهة  التنافس الإيجابي الذي لاتشوبه نزعة التبرير المتكلف رغم قلة عددهم وتواضع مواردهم.

ففي العاصمة آنذاك كليات قليلة ، وبيت متواضع للتلاقي الثقافي"دار الشباب القديمة"

أتذكر يومها ندوة ثقافية تحت عنوان :" هزيمة المثقف الموريتاني"  أقيمت في دار الشباب واشترك في إنعاشها كل من: المفكر احمد باب ول احمد مسكه و الدكتور الناقد المرحوم جمال ولد الحسن

وعلى الربط رئيس اتحاد طلا ب جامعة نواكشوط : حمود ول عبدي " الوزير ...  السفير" .

والغريب أن المفكر أحمد باب اعتذر بكل لطافة وصدق قائلا لا أستطيع أن أتكلم في موضوع هزيمة المثقف إلا بعد بحث وتروٍ، فالموضوع عميق والإرتجال فيه مجازفة .

أما الدكتور جمال ول الحسن فقال : سأحاضر على هامش الموضوع دون أن أمر به ولو مر الكرام .

شعور سائد عند تلك الطبقة بخطورة الموقف فبالنسبة لهم هزيمة المثقف الموريتاني موضوع تعمق وتجذر وتشخيصه يتطلب دراسة شاملة ومتأنية ، فإذا كان هذا هو واقع المثقفين في الثمانينات ومنهم الدكتور الناقد جمال ولد الحسن الذي يستحق وبكل جدارة أن يلقب مؤسس مدرسة "الأدب الموريتاني الحديث" ،والذي لما أبصر بعبقريته الفذة ما يلوح في الأفق من غيوم الفساد فضل الغربة متنقلا بين المحافل الثقافية الدولية حتى قضى نحبه خارج الوطن الحبيب .

ومنهم المفكر أحمد باب ولد أحمد مسكه الذي دخل خدر الصمت وحاله يقول: "ذاك ما جنوه على الوطن أما أنا فما جنيت على أحد" ، ومنهم شعراء صمدوا رغم ما عانوه من تهميش وغبن جرمهم الوحيد أنهم وقفوا صامدين في وجه التزلف نذكر منهم الشاعر العصامي الشيخ ولد ببانه الملقب أبا شجه الذي وقف بكبرياء وثقة أمام تأليه العسكرة التي غزت قريض الشعر فأضحى الشعراء أمامها "أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام" يبيعون بيت القصيد بفتاة زهيد ومنهم شعراء صدحت أصواتهم من خلف السجون وأبوا إلا أن يتحملوا الأمانة فأدوها على الوجه الأكمل ومنهم من أختار الغربة وفضل الصمت بعد أن احلولك أمامه الظلام كالشاعر الخليل النحوي,ومنهم من صدقوا ما عاهدوا الشعب عليه ,حملوا الأمانة وما بدلوا تبديلا كالشاعر الشاب فاضل أمين الذي وافاه الأجل المحتوم في السنغال ومنهم الدكتور الناقد والشاعر ادي ولد آدب الذي درّس أجيالا وكتب قصائد ثائرة ثم ودع الساحة الثقافية القابعة في أوحال الظلامية  وآخر كتاباته آنذاك:"برلمانكم ما قال لا قط إلا في تشهده"         ليدون بذلك موقفه من الإنهزامية التي يقبع في حضيضها المثقف الموريتاني. ثم تأتي الشواهد لتثبت أنما انتبه إليه المثقفون في الثمانينات هي نبوءات عما سيؤول إليه واقع النخب المثقفة اللاحقة,ولست بصدد التعليق على معاناة الثقافة في العهد الطائعي الذي كرس كل شيئ في يد ثلة من المفسدين فأضحى المفكرون والشعراء والإعلاميون والمؤدلجون مأطرين يأطرون للفساد يقلبون الموازين فيجعلون المر حلوا ويحفرون للسيولة مجرى تتدفق معه القيم والمبادئ والثوابت إلى مستنقع التدني.

ولست بصدد الكلام عن طبول عهد الجنرالات وقد ألتمس العذر لمن يريد من المثقفين أن يصفق لهم بيديه أما برجليه فلا فالأرجل خلقت للمشي ولكن يمكنه السير للوراء مسايرا غزيّة...

ولكن ما أثارني هو انكسار المثقف الموريتاني في الثمانينات أمام الذات اللوامة وشعوره باستفحال الهزيمة في كيانه وهو في بيئة لازالت نقية وإن لم يكن ثمت انفصام بينه مع بطانة القيادة الحاكمة فعلى الأقل ينتابه الخجل والإستحياء أمام الحراك الذي تموج به الساحة الثقافية ويزيدها غليانا.

يقابل ذلك اليوم كم هائل من الدراسات الأكاديمية والنخب المتميزة في شتى المجالات ولكن ساحة ثقافية ميتة وإنتاج مموّه!فإذا كان الهدف الأسمى الذي رسم الأكاديمي أمامه التقرب من بطانة النظام كي يأخذ من حثالات الكعكة ما لذ وطاب ولو على أشلاء شباب الجامعةّ! وإذا كانت أنشودة الشاعر في الحياة هي أن يتفنن في انتقاء الألفاظ الشعرية فيضمنها عصير إبداعاته كي يسخرها في ذكر فضائل كاذبة ومناقب مزورة لسلطة عاتية مستبدة ...وإذا كان الإعلام الصاخب أصم الآذان وتراكمات الصحف ملئت الخزانات فإن العرس كبير والزحام على أشده ولكن الوليمة إن لم تكن فأرا فجدي أسك .

أما حال الحراك المتفرج على المشهد فإنه يتراءا من بعيد:وجوه شاحبة يائسة تأبطت الإحباط...ومتلقون تحطم في وجدانهم آمال المستقبل...وطفل في زهرة عمره وميوعة صباه تائه يقف على مفترق طرق ترتسم الكآبة على محياه...وتعليم مغشوش تعبث به أنامل نخبة منهزمة يوجهها مزاج بطانة لاهية مستهترة.....

وصرخة الضمير الغائب الحاضر في متاهات اللامبالاة : لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.!!!

بقلم: يحي ولد معزو

         yahyamaazou@yahoo.fr  email

22201336

أستشراقات المثقفين