حانوت أدويرة.. شيطان يعظ، وبائع مسروقات...
الأحد, 02 فبراير 2014 17:05

alt

و هو يغادر الدَّار شَعَرَ بالنَدَم بل بالغَضَب، ربما ضُرب يوماً مثلاً للحماقة و السُّخرية..." حدث ذلك في رواية نجيب محفوظ، وحدث عندنا في موريتانيا حين خرج الشيخ من الوزارة فشعر بالندم، بل بالغضب،

ربما ضرب يوما مثلا للحماقة والسخرية... لكن هذه الخشية لم تدم طويلا،

 فقد حكّم قول المتنبي.. أنا الغريق فما خوفي من البلل... عاد إلى التجارة، بعد أن خسر الوظيفة، واختار من التجارة أكثرها ربحا وأفدحها خسارة... فتح حانوت تقسيط يبيع فيه الأعراض، في منطقة حدودية حيث التهريب وكثرة العابرين. احترق الحانوت بفعل مجهول في حلقته الأولى، فأعاد الشيخ تموينه، في فتحته الثانية بعد أن عرف بدقة شخصية الوقاف...

    لم تكن الفتحة الثانية أكثر توفيقا من الحلقة الأولى، فقد استلف الجميع، وتأخر الجميع في دفع ديونهم. انتظر طويلا، حتى إذا يئس من تحصيل ديونه  اتجه إلى القبيلة طلبا للتمويل في فتحته الثالثة. لبّت القبيلة النداء لكنها لم تعطه سوى الكاسد من بضائعها، ولم يكن في موقف يسمح له بالمناورة، المهم أن يظل حانوت أدويرة مفتوحا ليوهم الشيخ نفسه بأنه مازال في الحياة النشطة...

    أول سلعة تطالعك، معروضة على باب الدكان "هدية"، والناس يبيعون هداياهم في حالات الإفلاس الشديد... ثم تتوغل في المغارة لتكتشف المسروقات: "فهو الرئيس الأكثر حديثا في مجالسه الخاصة عن القبائل..." المجالس أمانات، وما يقال في المجالس الخاصة لا ينشره إلا الخونة، ولا يشتريه منهم سوى "تبتاب" بلا ضمير، وحانوت أدويرة يشتري المسروقات بأثمان بخسة لعجز صاحبه عن التبضع بالطرق المشروعة. ينادي الشيخ على أعراض القبائل قبل أن يتعرف عليها أصحابها... عرفنا الذين "لم يكن فيهم رئيس مصلحة..." قبل عزيز، وخمنا "الطلبة"، فمن هم الذين "ماهم شِ؟" ولماذا لا يثق الرئيس في أي شخص منهم"؟ حين يشتري "التبتاب" مسروقات يعرض بعضها، ويستبقي البعض لنفسه...

    ليس في حانوت أدويرة مسروقات فحسب، وإنما فيه بضاعة مغشوشة..."إدارة الصندوق الوطني للضمان الصحي (90% من الأموال المرصودة للصحة)." كان الرجل، قبل النكبة والسير في المسار الحانوتي، وزيرا للصحة، عليما بكل مصروفاتها. والصندوق الذي يتحدث عنه تعتمد موارده على الاشتراكات، وإذا كانت الدولة تقدم له دعما فلا يمكن أن يصل إلى الرقم الذي ذكره الشيخ... لكنها عقلية "التبتاب" الذي يبدأ المساومة ب90% ليبيع رابحا، ب5%. ويستمر العرض المغشوش.."مكلف بمهمة في الرئاسة برتبة وزير، مستشار في الرئاسة برتبة وزير." يعلم الشيخ أن المكلفين بمهام، والمستشارين في الرئاسة ليس فيهم من يحمل رتبة وزير. لكن عذره في الحنين إلى حقبة كان فيها المستشارون "ضأن و معيز".. يتفاضلون ب"الوظيفة"، وكان الرقم  ثمانية من قبيلة واحدة ولم يكن اثنين! وكان الوزراء أربعة من نفس القبيلة... ويستكثر الشيخ على القبيلة التي مدحها (من باب العادة) مستشارين! نسي الشيخ نكتة الموريتانيين عن أكبر خيمة في القبيلة، وزارة التهذيب، في عشرية احتكرت فيها القبيلة منح فرنسا وكندا، وظلت أكبر نسبة نجاح في البكالوريا تسجل في ديارها، و90% من محاسبي السفارات، حيث النهب والسرقات، من أبنائها.. أما الحديث عن الموردين، فأحرى بالشيخ طيه بدل نشره.. فالنار تأكل بعضها (أمام الرئاسة) إن لم تجد ما تأكله...

    ينغمس "تبتاب أدويرة" في النّسب المئوية، وهو الذي ربما مر عليه شهر دون أن يبيع مسروقا، لكنه يتذكر بها عهد الوظيفة، ونِسب الصفقات، وعمولات الموردين..."70% من الشعب تحت خط الفقر المدقع..." لا يعرف على وجه الدقة، والنسب المئوية، كم كان دخل الشيخ أيام الوزارة، لكنه حين تقلص إلى رئيس مجلس إدارة أصبح راتبه ثلاثة ملايين، وعمولته، عن كل اجتماع 1500 دولار. ذكر هذه الأرقام في العلن، وربما أنكرها اليوم لأنها ليست مسروقة من المجالس الخاصة... لم يسمع أحد أن الشيخ، المتباكي على الوطن وأهله، تبرع بأوقية واحدة "للأطفال والشيوخ الذين يموتون جوعا..."!

     يستريح "تبتاب أدويرة" من الصياح على بضاعته المغشوشة إلى الخوض في أعراض القبائل.."جيل ممن كانوا يلتقطون البعرة،..." التقطوها تعففا، وأنفة مما تقحمه آخرون..

             ولقد أبيت على الطوى وأظله+++ حتى أنال به كريم المأكل

            ولا أفعل الفعل الذي يرث الخنى+++ إن الكريم عن الخنى لبمعزل

لم ير الشيخ، قد تننكر العين ضوء الشمس... أولئك الذين عجزوا عن التقاط البعرة، حتى وضعها النصارى في أفواههم، لاكوها سراعا، حتى استنكر الشاعر الحساني وضعهم الجديد بعبارة استهزاء تليق به.."أتفُ!..." يصل الشيخ نهش الأعراض بأحاديث المتقاعدين، فيجلس بعد صلاة العصر، في ظل حانوته، يحدث بعض عابري السبيل بقصص يزيد فيها كل مساء لإصلاح أضرار ذاكرته.."فخرجت الحشود من كل صوب وحدب..." يعلم الشيخ أن جلساءه حبستهم الظروف في مجلسه، فلا يعيرون انتباها لقوله المكرور، فانتقلت العدوى إليه، فقلب العبارة المشهورة "من كل حدب وصوب"، ولعله سمعها دون أن يعرف معناها، فاختلطت في ذاكرته الضعيفة. فلو عرف معنى الحدب (ما ارتفع وغلظ من الأرض)، والصوب (صوب المكان انحدر)، لما افترى على الحشود. وقد نلتمس للدكتور عذرا أكثر التصاقا بتخصصه البعيد... يقول قريبه، في المهنة، (فريد) إن الخطأ أصدق تعبير عن مكنونات النفس. عملا بذلك تكون عبارة "تبتاب أدويرة" أصدق تعبير عن حالته؛ فهو يصارع في الصوب بعد أن قذفه الحدب...

   يحلي "المتعالم" حديثه ببعض آي الذكر الحكيم، مستخدما ذكاءه الفطري في خلط الأمور، فيورد النص في سياق كلامه، حتى إذا أخطأ فيه أمكنه التخلص بالقول إنه يروي المعنى، وإذا جاء النص صحيحا كبر في أنفس سامعيه من العامة، وقد كلف من أشاع عنه أنه عكف على القرآن عشر سنين..."نسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا."

   ينحدر الشيخ من ادعاء الحكمة إلى الخوض في السياسة.."لقد كانت هذه المهزلة المضحكة المبكية (نشهد عليك أنك من الذين أبكتهم)... فضيحة سياسية وأخلاقية (فعلتَ المستحيل للمشاركة فيها)... إلى أهازيج فلكلورية (كنتَ أجدر بأن تكون على رأس جميع لوائحها المديحية والهجائية)..." ما جرى للشيخ قريب مما حدث لثعلب جوعان... وقف تحت شجرة عنب مليئة بالثمار لكنها سامقة... تطاول إلى الثمار مرات عديدة، فلما عجز عن قطفها، تولى يتهمها بالفساد ليفتح حانوتا في "أدويرة"...

    يجرب الشيخ حظه في السجع، وقد آنس من بعض جلسائه، الذين تقطعت بهم السبل، بعض إنصات إلى حديثه الحزين، فتقمص دور الواعظ، استكمالا لدور الثعلب..."نصيحة وموعظة لمن يهمه الأمر..."، فتوالى النصح منحدرا من "موالي" إلى "اتكالي"... ليتوالى الازدراد.. استخدم الشيخ في سجعه حركة الكسرة 25 مرة، منها 13 مع ياء الملكية، ولذلك دلالته العميقة في سيمياء اللغة. قال، في (سر صناعة الإعراب):"الكسرة عبارة عن انجرار اللحي الأسفل عند النطق بالحرف، وحدوث الصوت الخفي، وإن امتدت كانت ياء، وإن قصرت فهي بعض الياء." وبذلك تتماهى الكسرة والإنكسار، والذل؛ فهي انجرار، الأسفل، الصوت الخفي... ولا يخفى الصوت إلا عن ضعف أو ريبة، وهي إن أشبعت لم تعدُ الياء، وإن قصرت أصبحت نصفها.. والياء منحدر سحيق تردى فيه "تبتاب أدويرة"..

   يستمر صاحب (سر صناعة الإعراب) في تعداد دلالات الكسرة، فيقول.."وهي تدل على اللين والرقة، وإظهار الضعف. يدل على ذلك أنها حركة المؤنث." فكيف اختارها الشيخ مطية لحربه؟

يعود ذلك إلى عوامل نفسية، فاللغة وعاء الفكر، ولكل واحد منا لغته التي تناسبه، فالكسر، والخسر، والقصر، والخزل.. أليق بمن يعاني هشاشة العظام، من الضم الذي لا يجوز معه السكون، وقد تردى الشيخ في قعر ياء سحيق...

  ألِفَ الشيخ منحدر الكسر، وقعر الياء فلم يعد يحتمل فراقه، فأبقى الياء، حيث ينبغي حذفها مخافة أن يشمله الحذف وقد ذاق مرارته.. فكتب: "إعلم أنه "من يغلل يأتي بما غل يوم القيامة." يبدو أن جهل الطبيب علل الأجسام، رغم ممارسته الطويلة للمنهة، لا يختلف عن جهل الكاتب المداح الهجاء علل الأفعال! ولأننا نحب فعل الخير سندخل الشيخ كُتّاب غوغل ليقوّم لسانه العربي، وهو سليل من افتخر بقوله: "أوتيت مجامع الكلم." أكتب، يا شيخُ! في غوغل: الفعل معتل الآخر وأحوال إعرابه، و ستر عجبا... سنعفيك من الحديث عن الشرط وجوابه، مخافة أن يصدق فينا القول المأثور.."خاطبوا الناس بما يفهمون! أتريدون أن يكذب الله ورسوله!" لكننا حرصا على تعليمك، سنضرب لك مثالا يقرب الفكرة إلى ذهنك.."من يُقلْ يغضبْ، ثم (للتراخي، فقد انتظرت حولين كاملين) يأتِ منكرا من القول وزورا..."

  يجرب الشيخ "التصرار" في الفكر متسلحا بتجربته في "حانوت أدويرة"، فيبيع برأس المال، حين عز الربح، فعل "تاجر سَوْ".."... الحسنة حسنة، والسيئة سيئة..."، "خلق الإنسان هلوعا"، بل الحسنة بعشر أمثالها... والله يضاعف لمن يشاء..."، والله يغفر الذنوب جميعا... يظهر "التصرار" في استشهاد الشيخ بآية نزلت في نساء النبي في موقف وعظ رجل يتولى شؤون المسلمين! هنا أيضا تشبث بيائه ربما لشبهها بالمكيال...

     ينهي الشيخ موعظته بالنهي عن المعروف.. "كفاكم من الصبر والحكمة والموعظة..." والله يقول: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا، ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون." ويقول: "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة."، ويحذرنا الشيطانَ الذي يأمر بالفحشاء والمنكر. ويَكْذبنا الشيخ حين يجزم، مع الاحتفاظ بالياء الغالية، "ولن يتخلى عن شيطانه،..." بلى، قد فعل حين أقاله، ثم حذفه حسب رواية الشيطان نفسه...

  تنحدر الشمس في الأفق، يتسلل آخر جلساء "تبتاب أدويرة".. يتوقف عن الكلام. يشيع الشمس بطرف خفي.. يقف متثاقلا، ثم يتمتم لنفسه.."انتبهوا ليومكم فلا تغرنكم حصيلته..." تذكر أوزاره التي راكمها طوال اليوم، فصاح بالأشباح التي اختفت من حوله، واحدا، واحدا.."وإلا فإنكم وحاملها وبائعها وشاريها..." وانتابته نوبة ضحك.. هاهاهاها... سمع صوتا خافتا يهمس له: "أصلْ أتمرْ المُروْكَلْ..."

طه محمد

Weekevall2005@yahoo.fr

حانوت أدويرة.. شيطان يعظ، وبائع مسروقات...