غليان ما قبل الانتخابات الرئاسية (2)
الأربعاء, 05 فبراير 2014 16:19

JPG - 17.8 كيلوبايت

من المفارقات كذلك في ساحتنا السياسية أن شؤون الاقتصاد والمال والمشاريع التنموية لا تحظى بالاهتمام الكافي من طرف المراقبين من إعلاميين ومسؤولين وقادة سياسيين، وذلك رغم الطفرة الاعلامية الكبيرة المتمثلة في بزوغ العديد من وسائل الإعلام الخاصة خلال السنتين الأخيرتين (قنوات تلفزيونية وإذاعات حرة ومواقع ألكترونية). فبالرغم من كل هذه المنابر الجديدة

 ظل خطاب الساسة والمسؤولين محتشما عندما يتناول المواضيع الاقتصادية وظلت تطبعه السطحية والعموميات.

صحيح أن الإعلام الوليد مازال يفتقر إلى المهنية والبرمجة المحكمة، وتشوبه في غالب أحواله شوائب فنية مرتبطة أساسا بقدرات وتجربة المنعشين والمقدمين، ومع ذلك فإن جوهر هموم المواطنين المتمثل في توفير البنى التحتية وإيجاد فرص للعمل وتحسين الظروف المعيشية لما يحظ بعد بالقسط الكافي من التعليق والتحليل والتغطية عبر إعلام لازال يبحث عن نفسه.

فالإعلام الرسمي تلاحقه عقدة "الإنجازات الكبيرة لفخامة الرئيس" وتحول بينه وبين التمعن الموضوعي في سير وانعكاسات المشاريع التنموية على عموم التراب الوطني من طرق وطاقة وماء وصحة وتعليم وتكوين وتشغيل وزراعة وإعمار وصرف صحي... الخ.

أما الإعلام الخصوصي فلم يرق بعد إلى المستوى المطلوب من المصداقية والتدبر، ولا زال القائمون عليه يفتقدون إلى رؤية استراتيجية للتعاطي مع ما يريده المواطنون من مشاهدين ومستمعين وقراء.

فلم تقم أية وسيلة إعلام حسب علمي بتقصي ما قيم به في ما يسمى ب"مثلث الفقر" في ولايات لبراكنه والعصابه وكوركول من مشاريع تنموية خلال السنوات الخمس الأخيرة وانعكاسات تلك المشاريع على الحياة اليومية للمواطنين. ولم يحدثنا مسؤول ولا مراقب عما صرفت الدولة من مواردها الخاصة وما حصلت عليه من تمويلات خارجية لتشييد وصيانة الطرق المعبدة خلال السنوات الخمس الماضية، منها ما أنجز بالفعل ومنها ما هو قيد الانجاز أو الدراسة، مقارنة مع ما حصل من ذلك في العقود الأربعة التي سبقت تولي ولد عبد العزيز للسلطة.

ولم أسمع كثيرا من يعلق على عدد الأسر التي أصبحت تمتلك مساكن وقطعا أرضية في انواكشوط، أو يعطي إحصائيات دقيقة وتقييما موضوعيا لما تم من إعادة تأهيل أحياء الصفيح والأحياء العشوائية في السنوات الأخيرة.

ولا تتوفر لدينا معلومات عن كمية وكلفة وتوزيع المعدات الطبية المتطورة التي اقتنتها الدولة في السنوات الخمس الماضية لتجهيز المستشفيات والمستوصفات في انواكشوط والداخل وتوفير وسائل الفحص والعلاج المتطورة على عموم التراب الوطني.

ولم يكثر الحديث عن المدارس والمعاهد العليا المستحدثة كمدرسة المعادن ومعهد التكنولوجيا، ولا عن إعادة هيكلة جامعة انواكشوط واستحداث كلية للطب، ولا عن العديد من معاهد ومراكز التكوين المهني التي تخرج منها مئات من الشباب المؤهلين حيث ولجوا بالفعل إلى عالم الشغل.

ولم نسمع أي تقرير عن عدد شبكات الكهرباء والماء الصالح للشرب التي أنجزت أو يجري حاليا العمل عليها بتمويل من الدولة في الداخل مع استحداث الطاقات المتجددة (الشمسية والهوائية) لضمان استمرارية ومردودية تلك الشبكات.

وتنقصنا المعلومات الوافية عن المحصول الزراعي للسنة المنصرمة رغم امتداحه على العموم، إلا أنه لا أحد يحدثنا عن تفاصيل ما تم من تحسينات وتحفيزات للمزارعين، ولا عن الرفع من جودة وسعر الأرز الموريتاني، ولا عن استصلاح المزيد من المساحات، ولا عن التجارب الواعدة لزراعة القمح على ضفتنا الخصبة...

وعلى مستوى الاقتصاد الكلي تشهد الأرقام والمؤشرات بتعافي الاقتصاد الوطني ورفع وتيرة النمو بمعدلات سنوية جيدة مقارنة مع بقية دول العالم، واحتواء التضخم رغم غلاء الأسعار وزيادة الدخل. ورغم هذه المعطيات الايجابية التي أكدتها الهيئات الاقتصادية والنقدية الدولية، فإن الحديث حول حالة البلاد الاقتصادية يكاد يغيب عن وسائلنا الاعلامية. وعلى المستوى النقدي والمالي فإن استقرار صرف الأوقية مقابل العملات الأجنبية وزيادة مستوى الاحتياطي الوطني وتعدد البنوك الأولية وتنافسيتها وخفض نسب الفوائد وضخ تمويلات كبيرة من الصندوق الوطني للايداع والتنمية، كلها معطيات من شأنها تطوير الاستثمار الداخلي وتشجيع المقاولات الصغيرة والمتوسطة على الرفع من قدرتها التنافسية وخلق فرص حقيقية للعمل. ولا تطالعنا وسائلنا الاعلامية بتحليلات موضوعية في هذا الشأن رغم أهميته القصوى في تنمية البلاد وتأثيره المباشر على حياتنا اليومية.

وعلى العكس من ذلك تماما، كثيرا ما نسمع بعض المراقبين يتحدث عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد وعن غلاء المعيشة وإفلاس المؤسسات التجارية وانسداد آفاق "الرزق" إبان فترة الرئيس محمد ولد عبد العزيز واصفا هذه الفترة بالكارثية على الاقتصاد إذا ما قورنت بالفترات السابقة وخاصة فترة الرئيس السابق معاوية ولد الطايع. والحقيقة أن الموريتانيين تعودوا خلال العقود الماضية على الثراء السهل المبني على اختلاس وتبييض المال العام والفساد والمحسوبية والتهرب من الضرائب وإنهاك كاهل الدولة بالفواتير المزيفة.

وقد حرص ولد عبد العزيز منذ توليه السلطة على محاربة هذه الظاهرة بلا هوادة، ويشهد اليوم كل من لديه أدنى قسط من الموضوعية والإنصاف أن التلاعب بالمال العام قد تقلص بنسبة عالية، وأن هاجس رسائل التسديد التي تبعثها مفتشية الدولة أصبح يطارد كل مسؤول تخول له نفسه التعدي على المال العام.

والذي يتناساه ساستنا هو أن النشاط التجاري غير المصنف الذي عجت به البلاد طوال العقود الثلاثة الأخيرة، والذي كان يعطي انطباعا بحركية اقتصادية وتدفق كبير للسيولة، إنما كان ناتجا عن إسراف في تحويل أموال المشاريع غير المنجزة إلى بعض عملاء وأقرباء المسؤولين المفسدين، ليوظفوها في عمليات تجارية مدرة للأرباح السريعة، فكثرت البرص والحوانيت وتضخمت مراكز التمويل الربوي الوهمية، حتى أصبحت ظاهرتا "التبتيب" و"شيبكو" في نظر البعض أسهل الفرص للعمل والثراء.

ويكفي ولد عبد العزيز شرفا أنه أول من حارب - بالعمل لا بالشعارات - هذا النوع من التلاعب السافر والمشين بالمال العام والدولة والمواطنين والذي يخالف قيم الدين والأخلاق الفاضلة. وليصفه بعد ذلك خصومه ب"اليابس" والمقتر...

عبد الله بن إسماعيل بن أبي مدين

  يتواصل -

غليان ما قبل الانتخابات الرئاسية (2)