الإسلام السياسي ومفهوم الأمة: الفخ القومي/ د. السيد ولد أباه
الثلاثاء, 18 فبراير 2014 23:47

alt

لم يستطع خطاب الإسلام السياسي حسم الإشكال الذي تطرحه العلاقة بين الدولة والجسم الاجتماعي، باعتبار أن دائرة الكيان الجماعي المعتبرة في هذا الخطاب هي «الأمة» بمعناها الديني وليس بالدلالة القومية الحديثة.

ما هو الفرق بين مفهومي الأمة؟

من الجلي أن مفهوم الأمة كما تقدمه النصوص المرجعية في الإسلام هو دائرة الانتماء الروحي المشترك التي تجمع بين أهل العقيدة الواحدة على اختلاف أصولهم وأجناسهم، وهي دائرة دينية تترتب عليها ضوابط قيمية تصدر عن معيار الأخوة في الدين الذي استبدل به الشرع العصبية القبلية. وإذا كان مفهوم الأمة ارتبط في التجربة التاريخية للمسلمين بتشكل «دار الإسلام» التي هي الترجمة السياسية لهذا المبدأ الروحي، إلا أن هذا البناء السياسي الذي تتوقف عليه جملة من أحكام الشرع ظل في الواقع أقرب لـ«المثال التاريخي» حسب عبارة «لويس غارديه» منه إلى واقع فعلي، باعتبار أن وحدة الأمة السياسية لم تتحقق في غالب الأحيان، وإنما ظل الإطار الروحي الجامع رهاناً أساسياً من رهانات الشرعية وإطاراً للفاعلية السياسية دون أن يكون له بالضرورة مضمون سياسي عيني. الأمة بمدلولها اللغوي الذي انطلق منه الفقهاء هي وحدة القصد والمقصد، وليست الكيان السياسي للجماعي، ولذلك لا نوافق «محمد أركون» في القول إنها مفهوم لاهوتي يسعى الفقهاء لتنزيله في الواقع، باعتبار أن البعد العقدي في هذا المفهوم هو ما يحول بالفعل دون تمثله سياسياً.

وكانت المرحومة «منى أبو الفضل» قد بينت في أبحاثها حول ما دعته بالأمة - القطب أن الأمة من حيث هي مصطلح ارتبط بالعقيدة التي أضفت إليه أبعاداً غيبية ليس مداره الدولة، وإنما المقوم العقدي نفسه الذي يتجاوز أطر البناء السياسي ولا يلتبس بها. فما هو الحال بالنسبة لمفهوم الأمة في دلالته في الفكر السياسي الحديث؟

يتعين هنا أن نبين أن الأمة كما تصورها فلاسفة العقد الاجتماعي الذين وضعوا أسس الفكر السياسي الحديث هي المجموعة المدنية التي انتقلت طوعياً من حالة الطبيعة، فتحولت من جمهور مشتت من الفرديات الحرة إلى الدولة التي هي التعبير عن الكيان الجماعي التوافقي.

الأمة من هذا المنظور ليست هوية روحية أو عصبية عضوية، بل هي بناء بشري مصطنع أو مخترع، ومن هنا الإشكال المضاعف الذي يتعلق بشرعية الحالة السياسية في بعديها التكويني (مسار تشكل الدولة) والمعياري (القيم الضابطة للانتماء المشترك).

ومن المعروف أن فيلسوف الحداثة السياسية «توماس هوبز» اعتبر أن هذا الانتقال من الجمهور إلى الدولة يتم من خلال علاقة التمثيل التي تضمن أن يتنازل الأفراد طواعية عن حرياتهم لمصلحة سلطة السيادة المطلقة التي يصنعونها، أي الشخصية الواحدة التي تمثلهم، وتضمن بالتالي تشكل الجسم السياسي البديل للشتات الفردي الحر، الذي لا يمكن أن يفضي إلا إلى العنف المدمر.

في مقابل هذا التصور الفردي للأمة، يوافق روسو على النموذج التعاقدي في مرجعيته القائمة على الإرادة الفردية الحرة الساعية طوعاً إلى بناء جسم سياسي تعاضدي، لكنه يرى أن هذه النقلة من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية تفضي إلى ترجمة الإرادة الذاتية إلى إرادة مشتركة تعبر عن نفسها بالقانون في بعده المتجرد الكلي.

وفي الحالتين (الفردية الهوبزية والجمهورية الروسوية)، يظهر من الواضح أن الأمة في دلالتها الحديثة هي الجسم السياسي للدولة الذي يتشكل وفق النموذج التعاقدي الحر وليس الانتماء الروحي، الذي هو من عناصر الوحدة العضوية المتعالية على الجسم السياسي والسابقة عليه.

ولذا فإن مفكري الحداثة السياسية اعتبروا أن البعد الانتمائي الديني هو في الغالب عنصر التصدع والصراع في الكيان الاجتماعي، ولذا كان الاتجاه تدريجياً إلى الفصل بين الدين من حيث هو ملة خصوصية مكانها الاعتقاد الفردي دون التحكم في الشأن الجماعي، الذي تديره الدولة وفق القواعد الإجرائية للقانون والدين من حيث هو قيم حافزة للحمة الجماعية وقابلة للترجمة في لغة العقل العملي، وهو بهذا المعنى ضروري لإضفاء القداسة على حالة التوافق الاجتماعي الهشة القائمة على مجرد الاختبار الفردي الحر. هذه العلاقة المزدوجة بالدين هي التي تفسر كيف تزامن النموذج العلماني في الغرب مع الاتجاه لنقل القداسة من الدين إلى الأمة بمفهومها الحديث، أي المجموعة المدنية التي تحولت إلى نمط من الوحدة الروحية العضوية، كما هو جلي في التصورات القومية في نسختيها الألمانية والفرنسية.

وهكذا نلمس الانزياح الدلالي غير الواعي في الخطاب الإسلامي، الذي نقل مفهوم الأمة من مجاله التداولي الأصلي بصفته الرابطة العقدية الروحية، التي لا يترتب عليها ضرورة بناء سياسي مشترك، وإنْ انبنت عليه قيم وأحكام شرعية بلورها الفقهاء إلى المفهوم القومي الحديث الذي يرجع لمقولة «الديانة المدنية» بلغة روسو، أي الجسم السياسي للدولة مضفى عليه الطابع المقدس للدين.

يتأرجح خطاب الإسلام السياسي في سؤال الشرعية السياسية بين تصورين للأمة، يتعلق أحدهما بمسألة حاكمية النص، ويتعلق ثانيهما بالإطار الإقليمي للسيادة. بخصوص الموضوع الأول الاشكال المطروح يتعلق بمصدر الشرعية هل هو النص أو الأمة الأمينة على النص، حيث تلغي فكرة الحاكمية المودودية- القطبية البعد الجماعي في الشرعية باسم الحاكمية الإلهية. ويذهب اتجاه إسلامي آخر إلى أن الأمة هي مصدر الشرعية في إطار مرجعية النص.

بيد أن هذه المقاربة تقود إلى المأزق الثاني المتعلق بالمضمون الموضوعي للأمة: هل الامة بمفهوم دار الإسلام التقليدي الذي لم يعد له أثر في تركيبة البناء السياسي الحديث، أم الأمة بالمفهوم القومي الذي بينا مسار تشكله وعلاقته بالبعد الديني؟ وهكذا يتضح أن الخطاب الإسلامي ينتهي إلى السقوط في الفخ القومي، الذي طالما حاربه باسم الدعوة العصبية الجاهلية العلمانية.

 

المصدر: صحيفة "الاتحاد"

     

 

الإسلام السياسي ومفهوم الأمة: الفخ القومي/ د. السيد ولد أباه