الماء مصدر الحياة
الجمعة, 07 مارس 2014 12:38

alt

اجتاحت موريتانيا موجة من الجفاف مع مطلع السبعينيات الميلادية من القرن الماضي نتج عنها هلاك معظم الثروة الحيوانية التي كان يعتمد عليها معظم السكان في حياتهم ولم تكن قريتنا ، بئر الخير ،استثناء، فقد أصابها ما أصاب غيرها ولم يبق فيها إلا دابة واحدة بعد أن كانت مكتظة بالأنعام ..

ضاعت تلك الدابة الوحيدة التي لا أذكر إن كانت شاة غنم أو غير ذلك . لم يبق في القرية إلا النساء والأطفال فتعين علينا نحن معشر الأطفال البحث عن تلك الدابة لأن الرجال ذهبوا إلى السنغال للتجارة.

كنا أربعة من الأطفال : إخوتي أحمد سالم أحمد الذي يعمل حاليا خبيرا في المنظمة العربية للتنمية الزراعية في الخرطوم وجدو بن مبارك وصنوه المولود وكاتب هذه السطور.

تحركنا من الحي حوالي الساعة الثامنة صباحا وكنا وقتها لما ندخل المدرسة إذ كان من عادة الموريتانيين آنذاك حبس أبنائهم عن المدرسة حتى يكملوا حفظ القرآن.

تحركنا على غير وجهة محددة معتمدين بشكل أساسي على بعض الحدس الذي يكتسبه أهل البادية والصحراء من بيئتهم.

كان الزمن صيفا والجو حارا وكان من ألطاف الله بنا سكون العواصف إذ أنها إذا تحركت يصعب معها الاهتداء إلى المعالم وربما تاه المسافر وضل طريقه .. كنا كلما تقدمنا ارتفعت درجة الحرارة وازداد لهيب أشعة الشمس .. لا نرى في جميع الاتجاهات أي معلم للحياة، سكون كامل لا يقطعه إلا أصوات الطيور التي تزقزق من وقت لآخر لعلها تبحث مثلنا عن الماء .. صحراء قاحلة لا ماء ولا شجر ولا بشر .

وإلى وقت قريب قبل ذلك كانت هناك صورة أخرى على النقيض تماما ، أرض خضراء ممتلئة بأنواع الأشجار والعشب تعج بأنعام مختلفة الأشكال والأحجام وطيور تزقزق كل صباح وزهور وورود وماء عذب زلال في الأودية والقيعان ونسيم عليل يلطف الجو وينعش الأنفس ودورة بيئية متكاملة .. تحول كل ذلك إلى قحط وجدب .. وفي كل ذلك آية من آيات الله العظيمة..

 

وهكذا نتقدم ونسير من كثبان رملية إلى أودية ، إلى ربوة .. اقترب الزوال وبلغ منا العطش مداه .. إلى أن نفد صبرنا فقلت لإخوتي : أنا تعبت ولم أعد استطيع السير .. فقال لي أخي أحمد سالم تبقى أنت والمولود تحت ظل هذه الشجرة إلى أن نأتيكم بالماء من أقرب بئر أمامنا – بركوكش - وتبعد حوالي 8 كلم عن حيينا ..

ذهب أحمد سالم وجدو إلى البئر ، لم يجدا ماء ولا بشرا ولا أثرا للحياة .. لم يستسلما ألهمهما الله أن يواصلا المسير شرقا بحثا عن الماء وبعد قطع مسافة شاهدا خيمة وحيدة منصوبة على ربوة .. وجدا امرأة في الخيمة ، طلبا ماء، شربا ثم طلبا من المرأة كمية إضافية من الماء لجلبها إلينا.. ملأت لهما "طنجرة" وهي إناء من الألمنيوم على ما أذكر يشبه القدر إلى حد ما . عادا إلينا ونحن في وضع لا يعلمه إلا الله من العطش ، شربنا .. استرحنا قليلا .. بعد ذلك قال لنا أحمد سالم خيارنا الأفضل أن نذهب إل تلك الخيمة ونجلس فيها ضيوفا إلى أن يتضح الأمر.. ذهبنا نقتفي الأثر في اتجاه الخيمة ... لكننا لم نعثر على شيء .. أين اختفت تلك الخيمة وهل ضللنا الطريق ؟ وكيف ذلك ؟ والمسافة ليست بعيدة والرؤية واضحة كل ذلك علمه عند الله..

 

وفي أثناء بحثنا عن الخيمة بدأت الشمس تميل غربا وبدأت الحرارة تنخفض تدريجيا ومكننا الماء من استرجاع بعض الطاقة فقررنا العودة إلى الحي قبل أن يجن الليل .

 

في هذه الأثناء كان الأهل في قلق وخوف وحيرة وزاد من كل ذلك عدم وجود الرجال الذين يمكنهم البحث عنا .. وكذلك جهلهم بالوجهة التي اتجهنا إليها .

 

 

واصلنا السير مع كل التعب والإرهاق ومع غروب الشمس وصلنا إلى بئر الحي الذي غادرناه في الصباح فوجدنا مصبات الماء (تقدات) قد ملأها بعض البدو الرحل الذين مروا على البئر لسقي ما تبقي من أنعامهم .. شربنا شرب من يتصور أن ماء البئر ربما لن يكفيه ..

 

 

وبعد استراحة خفيفة وما يشبه غيابا ذهنيا بسبب شرب كميات زائدة من الماء بعد رحلة مضنية في يوم من أيام الصيف الحار ، ذهبنا إلى الحي فوجدنا الأهل في غاية الشوق إلينا .. استبشروا بعودتنا وحمدوا الله كثيرا وخاصة الوالدات فاطمة بنت أمين وخديجة بنت أمين ومباركة بنت جدو ..

 

 

وهكذا من علينا ربنا الكريم الحليم بالنجاة وعدنا إلى ذوينا بعد رحلة أقرب هي إلى المغامرة ومن أفضال الله علينا تلك التربية الخشنة التي يتميز بها أهل البادية ، فالطفل في البادية ينشأ على الخشونة ومواجهة صعاب الحياة فيكسبه ذلك جلدا وصبرا وقوة تحمل يفتقدها أطفال المدينة خاصة في أيامنا هذه حيث الترف الزائد ودواعي الكسل والخمول وعدم القدرة على التحمل بسبب ترهل الأجسام وسوء التربية. وفي ذلك دروس وعبر لمن أراد أن يتأملها.

 

وتدور الأيام بعد ذلك وينزل الغيث وتدب الحياة وتخضر الأرض وتتكاثر الأنعام والطيور ، قال تعالى : (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ). وفي ذلك حكمة بل حكم ، لا تخفى..

 

فسبحان الله العلي العظيم مكور الليل على النهار ومجدد النعم والآلاء بلا عد ولا حصر.

 

(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).

الماء مصدر الحياة