أحتمي بطولي من عاديات الزمن "يحي ولد معزو"
الأربعاء, 12 مارس 2014 23:28

alt

قد يكتسي الحدث بعدا زمانيا ويتفرع إلى مجالات متباينة ، أو يتسم بخلفية فكرية عميقة الدلالة .

وقد تخلق ثقافة المجتمع حدثا عن طريق مزيج من التراكمات ساهم الواقع والخيال والطرافة والإستنتاج في حبك نسيجها ، ولكن رغم الإختلاف إلا أن للقرائن فاعليتها في ربط الأحداث 

،وقد يكون وجه الشبه مقتصرا على إنسيابية الحدثين فقط وفي نفس السياق أورد حكاية فيها سذاجة فطرية يدرك من خلالها بصمات الجدات في بناء تفكير الطفل ، فهن ينتجن من مكنون خيالهن نسيجا قد يشبع رغبات الصغار ويشدهم إلى متابعة الحكاية ، إنه خداع طريف يتم من خلاله إستدراج الصغار للسهر تحريا لوجبة العشاء .

تحكي الجدة : كان القصر قد أكتمل بنيانه بإستثناء النافذة الخلفية المطلة على المسجد الذي أحتضن تمزيق المصحف الشريف ويبدو أن البناء كان على عجلة من أمره فلم يتقن تركيب النافذة وذلك ماهيج رغبة اللص المحترف الذي كان مرابطا ينتظر فرصته ويتابع القصر فأدرك بحسه المتمرن أن نقظة الضعف في القصر تكمن في هشاشة تركيب النافذة وإزاحتها تضمن له الولوج إلى الكنوز المخبوءة في القصر ، ولكنها نافذة قدارة فما إن وضع اللص رجله على متنها حتى تهاوت به فوقع على اللبنات المتناثرة مغشيا عليه وكسرت رجله ، أثار أنينه أنتباه المارة فتجمهروا حوله وحضر القاضي وأجرى تحقيقا دقيقا تبين له من خلاله أن السارق أراد أن يسطو ولكن النافذة لم تكن مدعمة وذلك ما أعتبره تفريطا من مالك القصر فأستدعاه فورا وأتهمه بالإهمال والتمالإ مع النافذة بهدف الإيقاع باللص ! أراد مالك القصرأن يجد لنفسه مخرجا من الورطة التي وقع فيها ولم يكن أمامه إلا أتهام البناء الذي حسب رأيه لم يحترم روح التعاقد ولم يتبع الدقة في تركيب النافذة وبسرعة تفاعل القاضي مع التبرير وأعتبر البناء هو المتهم الرئيسي في القضية .

لم يجد البناء الذي أستدعي بدا من اللجوء إلى تحميل المؤثرات الخارجية المسؤولية ، واعتبر ذلك السلوك خارجا عن إرادته ولكنه أثناء تثبيت النافذة شد أنتباهه إزار مطرز ترتديه طفلة صغيرة تمت خياطته وتزينه بشكل لم يألفه ويبدو أن قوة التأثر بالمشهد أنعكست سلبا على أدائه أثناء تركيب النافذة !

اعتبر القاضي الطفلة هي المدان الأول وأمر بإحضارها على الفور ! أحضرت البنت مكبلة بسلاسل الحديد .

ولكن الجدة تركت الأطفال يلهون وأرادت أن تركع ركعتين أعتادت أن تركعهما بعد صلاة العشاء ، فألتفت إلى التلفزة وصادفني خبر عاجل في إحدى الفضائيات مفاده أن الشرطة أغلقت الشوارع المؤدية إلى المسجد الذي نفذت فيه جريمة تمزيق المصحف الشريف ! وأن وكيل الجمهورية عاين المكان ، وأن سكان أنواكشوط خرجوا عن بكرة أبيهم وهم في غضب وهياج ،فالحدث كبير والقلوب منكسرة والناس يموجون فوقع الحدث كان مدويا في مسامعهم والعواطف جياشة حالهم يذكر بحال المسلمين في الليلة التي أنتقل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حيث كان عمر بن الخطاب قد بلغ به الحزن والتوتر إلى درجة أنه هدد بالقتل من زعم أن محمد صلى الله عليه وسلم قد مات ، كذلك في هذه الليلة كانت امواج البشر متوجهة إلى مسجد ابن عباس كأنهم عاصفة هوجاء ، الأعصاب متوترة والتفكير مشدود إلى ماسيفعله الأمن الوطني والآمال معقودة على قدرة الإستخبارات وجاهزيتها في متابعة العصابات وحدس مواقع المجرمين.

عدت ملهوفا إلى الجدة التي رجعت إلى الصغار فوجدتهم في شوق إلى متابعة الحكاية فقالت :

وما إن شاهد القاضي الصغيرة حتى بادأها بالشتم معتبرا أرتداءها للإزار الذي تم تطريزه وتزيينه ومروها أمام البناء كان بهدف التشويش عليه وإرباكه بهدف العبث بالنافذة حتى تكون شركا للإيقاع باللص الذي أراد السطو على القصر، فهي تستحق إنزال أقصى العقوبات .

أرادت الجدة  أن تقضي حاجة في نفسها  فحملني حب الإطلاع إلى فتح المواقع الإخبارية وصادفني العنوان التالي : الأمن يلقي القيض على ... عنوان مثير كما عودتنا المواقع فكثيرا ماتكتب عناونين بهدف التلاعب بعواطفنا ، يخيل إلى السامع أنها أحداث عظيمة ومستجدات تستدعي تصفح الخبر وذلك بغية تحقيق أهداف مرسومة وراء الإثارة .

فتحت العنوان وأنا في نشوة وفرح بهذا النجاح الإستخباراتي الفريد فقلت في نفسي : وأخيرا تحقق الحلم ... قبض على مدنسي المصحف الكريم وغدا سيفرح الموريتانيون الذين عانوا صدمات عنيفة ، ولكنها نشوة لم تدم إلا لحظات لأن الأعتقالات المذكورة أستهدفت بعض من يسمون أنفسهم أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الصحفيين الذين حضروا إلى مسجد ابن عباس ليغطوا الفعاليات المنددة لمسلسل الإستهدافات التي تتعرض لها المقدسات الإسلامية ، ولم أكد أكمل قراءة التفاصيل حتى حضرت الجدة وهي تبتسم بفيه يفوح منه عبق البراءة ، لم تكممه السياسة ولم يعبث به تزلف المثقفين ، قالت الجدة : بدت الصغيرة مذعورة أخرسها الخوف والحياء ولكنها تمالكت وقالت في حشرجة : أبي هو من أختار لي الإيزار.

خاطبها القاضي قائلا الأمر قد دبر بليل من طرف الأب وإبنته ولابد من إحضار الأب حتى تأخذ العدالة مجراها .

أما الأب فقد أبدى أستياءه لأنه حسب تصريحه طلب من الخياط أن يحبك الإيزار حبكا متواضعا لا تطريز فيه ولم ينتبه إلى التزين المثير إلا بعد الحادث الأليم .

قال القاضي : بدأت الوقائع تتكشف فالمدبر الحقيقي هو الخياط ، ولما أحضر الخياط وأشعر بالتهمة رماهم بالتفاهة وأعتبر القاضي هو المجرم الأول لأنه أقام الدنيا ولم يقعدها بسبب لص كان من المفروض أن يعالج ثم يرمى في السجون .

قال القاضي : وأخيرا تم العثور على المجرم الوحيد بعد أن أعترف أمامنا ! فقد حكمنا ببراءة الأب وإبنته وعلى الخياط بالإعدام شنقا .

أمر القاضي بتنفيذ الحكم وأحضر الخياط إلى شجرة علق على أغصانها حبل المشنقة ووضعوا الشرك في عنقه وأثناء سرد الجدة للوقائع سمعنا ضجيجا فخرجت بدافع الفضول لأستطلع الخبر فأخبروني أنه تم القبض على بعض الأفراد ، وتم إغلاق جمعية المستقبل الخيرية والمعهد الإسلامي للبنات ومركز نور الصحي .

عدت إلى الجدة علها تثلج صدري بنهاية حكايتها الطريفة فقالت : قد تظنون أن الإعدام نفذ في الخياط ! لحسن حظ الخياط أنه كان طويل القامة تجاوز طوله الغصن ولم يخنق مما أربك المنفذين ولكن حكم القاضي كان أسرع من تفكيرهم حيث أمر أن يحضر من في المدينة من الخياطة وينفذ الشنق في أقصرهم قامة ، ويطلق صراح الخياط الطويل ! نفذ حكم الإعدام في قصير القامة الذي أحضر من أطراف المدينة ! وعندئذ أحضر العشاء ولكن يبدو أن الجدة كانت تحكي في فراغ فالأطفال من وسط الحكاية يغطون في نوم عميق .

قلت في نفسي ماخلق الله شيئا عبثا وليس كل طويل بخيل فقد أحتمي يوما بطولي من عاديات الزمن ، وقد تحتمي المعارضة في طول قيادتها وكذلك الموالاة والمعاهدة والتواصل والديمقراطية وحقوق الإنسان والإعلام الحر ومنظمات المجتمع المدني ، والجدة ... فقصير القامة لا أمان له في شرعة الغاب .

 

أحتمي بطولي من عاديات الزمن