بلاد الألقاب السائبة/ أدي ولد آدب
الأحد, 05 يناير 2014 01:29

 أدي ولد آدب  لقد سبق لي أن قدمت محاضرة بعنوان : " موريتانيا بلاد الاستثناءءت"، كانت – بعد ذلك- نواة لبحث حول الموضوع،ويبدو أن سيبة الألقاب في هذه البلاد تدخل في سياق هذه الاستثناءات التي تختص بها موريتانيا.

فإذا كانت هذه السيبة تمثل قاعدة صلبة في كينونة البلد،فمن الطبيعي-أيضا- أن تبقى هذه البلاد على سجيتها وفطرتها الصحراوية البدائية - في بساطتها وتلقائيتها- نفورة من تعقيدات البروتوكولات، والتهافت على اكتساب الألقاب الفخمة، والمبالغة في تداولها.

وقد كان هذا بالفعل هو السائد منذ نشأة هذا المجتمع حتى أمسه القريب، حيث لم يتسم قواد المرابطين- لا في الجناح الجنوبي ولا الجناح الشمالي- بتلك الألقاب السلطانية الفخمة، بل اختاروا منذ النشأة اسم " المرابطين" المشحون بحمولة "الرباط" في سبيل الله على ثغور الجهاد، والمصابرة في نشر الدين والعلم والهدى...

.، ولم يتجاوزوا لقب "المرابط" إلا إلى لقب " الأمير"، إن كانوا - في بداياتهم على الأقل- قد تجاوزوه أصلا، ،لأن اسم أبي بكر بن عمر اللمتوني بقي عالقا بالذاكرة الجمعية الموريتانية مجردا من لقب "الأمير" ، حيث بصم مكان ضريحه إلى اليوم بـ " ببكر بن عامر" كما  ينطق شعبيا.

هذا بالإضافة إلى أن عبد الله بن بلكين الصنهاجي أميرغرناطة في عهد طوائف الأندلس،في كتابه حول نكبته على يد يوسف بن تاشفين،كان لا يكاد يتحدث عن هذا الأخير- وهويسحب بلاطات أمراء الطوائف من تحت أقدامهم- إلا بلقب" المرابط"،علما بأنه يتحدث عنه من داخل الأندلس في ذلك العهد الذي زَهَّدَتْ ابنَ رشيق القيرواني في العبورإليها سيبة الألقاب فيها، معتبرا إياها:

ألقاب مملكةٍ في غير موْضعها

كالهِرِّ يَحْكِي انتفاخًا صوْلةَ الأسَدِ

وفي الأطوار اللاحقة من عهود السيبة اكتفى القادة الزمنيون للأقاليم الشنقيطية – من عرب المغفر وغيرهم- بلقب "الأمير"،و "الشِّيخ"،بكسر الشين، بينما اكتفى قادتها الروحيون بلقب "الشَّيخ" بفتح الشين،جامعين بين كسرها وفتحها في بعض الأحيان، مع ملاحظة أن الشَّيْخ كانت وصفا من المريدين لمرشديهم الروحيين، ولكن الموصوفين بها لايستجيزون إطلاقها على أنفسهم، بل يجردون  أسماءهم من كل الحلى والألقاب، واصفين أنفسهم بالعبيد الفقراء إلى ربهم،عند التوقيع على أي رسالة أو مؤلف أو وثيقة، وبهذا التواضع رفعهم الله درجات في عيون العباد وفي قلوبهم،وبه بَوَّأهم المقامات الروحية العليا.

ورغم شيوع لقب "الشيخ"، مهما تَنَصَّل منه حاملوه، فإن لقب "المرابط" ظل "ماركة مسجلة"تطبع ناشري العلم والدين من ورثة عبد الله بن ياسين، شيخ المرابطين،حتى عهد "المرابط"سيدي محمود،و"المرابط"ولد متالي،و"المرابط" يحظيه ولد عبد الودود، وصولا إلى "المرابط" عَدُّود، و"المرابط" بدّاه،في أمسنا القريب، حتى أن هذا اللقب فرض نفسه غلى الفرنسية، بتحريف بسيط، كمرادف للشيخ الروحي،هذا إضافة إلى لقب " الفقيه" الذي مازال علما على أسرة العالم محمد يحيى الولاتي" .

وإذا كان الشيخ المرحوم:محمد سالم بن عبد الودود"عدود"- وهو المتبحر في مجمل علوم القوم- ظل يستنكف من الألقاب الكبيرة التي تطلقها عليه الصحافة، رغم جدارته بها، فيرفض-مثلا- أن يسمى"العلاَّمة" بتاء المبالغة، مفضلا عليها مجرد صفة"المرابط"، فإن جل فقهاء العصر،وحتى متفقهيه، ماعادوا يستنكفون من تطويقهم بالألقاب العلمية المبالغ فيها، ولا يَتَخَشَّعُون أمامها تواضعا لله ، بل تتبسَّط أسارير أوجههم رضًى عن أنفسهم، ويمسحون على سبلات لحاهم زهوا،وينفخون أكمام ثيابهم ، تبرجا بزخارف الخياطة والتطاريز، وبهارج الحُلى والألقاب،ويتحسسون أكوار عمائمهم المتعالية،حرصا على ملء المقاعد والمنابر والشاشات التي أصبح يستبيحُها كل من انتحل هذه الصفات، وتَقَمَّصَ ذلك السمْتَ ، ومُكِّنَ له في الأرض ، وفي الأثير، وفي الفضاء، فـ " يفتي.. يفتي.. يفتي..."

وهكذا ما عاد وصف:العالم- بَلْهَ الفقيه والمرابط والشيخ- يُرْضي غرورَ هؤلاء، فأغلب أجلاء علماء الدين، والمرابطين،وحتى طلبتهم ومنتحلو صفاتهم، يشرئبون لتاء العلاَّمة ، وينتشون بربطها حول أعناقهم،إذا منحت لهم جزافا، رغم أن مستحقيها منهم قليل جدا، إن كان هناك من يستحقها أصلا ، لأن الله عَلاَّم الغيوب لم يصف ذاته تعالى بـ العلامة، فلا هي من أسمائه الحسنى ، ولا من صفاته العليا، فكيف لا يكتفي العالم – مجازا- بما اكتفى به الله العالم الحقيقي بظواهر وبواطن مخلوقاته؟!"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"

إن هذا الحقل الديني كان ينبغي أن يظل بمنأى عن سيبة الألقاب، وميوعة التخصصات، وأن يظل محصنا بهالة من التقوى، تُبْنَى سرادقها- بالتربية الحسنة- في نفوس متعاطي الشأن الديني، حتى لا يَتَسَوَّرَ المِحْرابَ متجاسرٌ، ولا يمتطي المنبرَ إلا من هو به حقيق، ولا يَتَصدَّر مجالسَ العلم إلا من اثبتت التجربة كفاءته العلمية والعقلية والروحية والسلوكية .

أما عن سيبة الألقاب في المجال الأكاديمي فحدِّثْ ولا حرج،فدال الدكتور دُكَّتْ حقيقتها وقيمتها،وهمزة الأستاذ بالهمز واللمز والغمز جديرة،وباء الباحث فيها بحث طويل، وصفة الأكاديمي مثخنة بالكدمات، تعيث فيها مباضع الجرح والتعديل.

فـالدكتور- مثلا- ينتحلها كل من سجل سنة واحدة أو سنتين بعد الليصانص أوالإجازة  في جامعة أجنبية،يتخرج منها بشهادة تسمى في عرف منتجيها بأسماء متعددة ومتباينة، لكن لقب  الدكتوراه الأصعب منالا  ليس من بينها، لأن له مستواه العالي، ومدته المعتبرة، ومجهوده المُكَثَّف،ومنجزه العلمي الموازي والمتواصل، ومواضعات تسمياته المعتمدة،مثل ما كان يسمى: دكتوراه دولة، وما أصبح يسمى: دكتوراه مطلقا،إضافة إلى دكتوراه السلك الثالث،وحتى هذه الأخيرة لا تصدق أبدا على الوجبات السريعة التي تؤخذ بعد سنة.

وإذا كانت المواضعات الأكاديمية قد تجاوزت إشكال اختلاف تسميات الشهادات،حسب اختلاف الأنظمة التعليمية في شتى الجامعات، عبر أنحاء العالم،بآلية احتساب سنوات ما بعد الباكلوريا معيارا لدرجات الشهادات ومعادلتها،فإن سيبة الألقاب عندنا تَعْتَبِرُ شهادة أُخِذَتْ بعد سنة واحدة- بغض النظر عن الكيف،ولو من معهد لا يكاد يعترف بشهاداته غير جامعتنا- أفضلَ من شهادة أُخِذتْ بعد ثلاث سنوات، أو سنتين على الأقل، ولو من أعرق الجامعات العربية والدولية،مما يعني أن الترتيب هنا معكوس بالمقلوب، فكأنهم يعتبرون -في فلسفتهم العجيبة - أن المنتج العلمي كلما كانت تكلفته أقل، وجودته أدنى ،يكون أفضلَ، خلافا لجميع نظريات السوق الاقتصادية، باستثناء تلك التي تقول إن" العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة"،فكأن معاييرمعادلات الشهادات عندنا موروثة من يهود" العهد القديم"،حيث كانوا يستبدلون "الذي هو أدنى بالذي هو خير"، ومن هنا أصبحت الدركات تتفوق على الدرجات، والفرق بين المعنيين في العربية لا يحتاج إلى توضيح.

وقد ضاعف من تفشي سيبة الألقاب الأكاديمية عندنا، أن زيارة جامعة خارجية لم تعد شرطا وحيدا في انتحال هذه الألقاب الأكاديمية السائبة، حيث أصبحت تنتج محليا، بشكل مجاني في جامعتنا الرسمية، وبأسعار محددة في جامعاتنا الحرة، فكل من سجل في السلك الثالث هنا، أو هناك:

أتته "الشهادة" منقادة      إليه تجرر أذيـــــالها

فلم تك تصلح إلا لـه      ولم يك يصلح إلا لـها

هذا مع العلم أن الشهادة ألأكاديمية لا تقتضي مستواها العلمي، "ضربةَ لازب"،وعدمها أيضا لايستلزم جهل فاقدها بالضرورة، فالرهان على المعرفة أولا وأخيرا، مع الشهادة وبدونها.

ولعل أخطر ما في انتحال " التَّدَكْتُر" عندنا أن صاحبه يقنع نفسه،وطلابه ، ومحيطه الأكاديمي والعائلي والاجتماعي...بدكتوراه المزعومة،فإذا أزفت لحظة الحساب،واضطرته دواعي الترقي الأكاديمي،أو دواعي الترسيم الوظيفي إلى إحراز دكتوراه الحقيقية،وجد نفسه في حرج معضل،حيث يصعب عليه الاعتراف أمام نفسه وأمام كل مخدوعيه بأن الهالة الأكاديمية التي كان يحيط بها ذاته مجرد هالة من الأوهام والتهيآت،مَرَدَ عليها حتى خالها وافعا،فلو سَجَّلَ دكتوراه من جديد، كيف سيجيب من سيسأله عن طبيعة دراساته المستأنفة، وهو الحامل لقب دكتوراه التي يعتقدونها نهاية المسار الأكاديمي، رغم أنها في حقيقتها ليست إلا بداية مشوار البحث العلمي الجاد المتواصل من المهد إلى اللحد؟!!

ومهما يكن ،فإن هذه" الفوضى" غير "المنظمة" ولا "الخلاقة"، في تعاطي هذه الألقاب الأكاديميةالسائبة يتولَّى كِبْرَها القائمون على الجامعة والوزارة،ويتقاسم وزْرها الأساتذة وبقية شرائح المجتمع،يستوي في ذلك المنتحلون،والساكتون على هذا الانتحال السافر، والمشاركون في تسويقه، وتسويغه، وتداوله، وتكريسه،حيث ينبغي أن لا يمنح لقب علمي إلا لمستحقه،وأن لا يتولى مهمة أكاديمية من لا تتناسب مع درجته العلمية،لا سيما مع وجود من هو أحق بها وأهلها.

وغير بعيد من الحقل  الديني والحقل الأكاديمي، تتفشى سيبة الألقاب- أيضا-ورواج انتحالها ، في الحقل  الأدبي، حيث يكثر أنْ تُقَدِّمَ لك وسائلُ الإعلام، ومنابرُ العلم والثقافة ،أحَد ضيوفها مدججا بترسانة من الألقاب الكبيرة،كـالناقد والكاتب والشاعر و المبدع....دفعة، فتشرئب روحك إلى ما وراء هذه الجعجعة من طحين، متسائلا عن شهاداته العلمية العليا، وعن كرسيه الذي يَقْتَعِدُهُ ويُنَفّذُ من خلاله مشروعَه النقدي المفترضَ،وتتطلع إلى منجزه التأليفي في مجالي التنظير والإبداع،ولكن الصدمة الكبرى أنك قد لا تجد لحامل ترسانة الألقاب هذه شهادة غير شهادتي أن لا إله الله، وأن محمدا رسول الله، وانعم بهما من شهادتين، إن زجرتا صاحبهما عن الفحشاء والمنكر،والتَّزَيُّد في زخرفة هرم الأنا، وإذا فتَّشْتَ عن كتبه، قد لا تجد لديه غير كتاب ميلاده، الذي أصبح ضرورة ملحة، في ظل حُمَّى إحصاء السكان، الموازية هذه الأيام لحُمَّى الملاريا، وحُمَّى الواد المتصدع،أو الحُمَّى القلاعية،او الحُمَّى النزيفية...،أعاذنا الله من هذه الألقاب السائبة هناك أيضا.

أما في مجال الموسيقى فكل من ولد على مهد أسرة فنية،فهو فنان،ومطرب،وملحن، وموسيقار، وحتى لو كان لا يملك موهبة اللقب، ولم يكتسب خبرته، ولم يهتم به أصلا.

أما في المجال العسكري،فالرتب والألقاب والنياشين العليا، تكتسب أساسا بالانقلابات،أكثر من الأقدمية،ومن رصيد الإنجازات والانتصارات، ومن مراكمة المعارف والخبرات، فكل ذلك يمكن أن يختزله متسلل – تحت جنح الظلام-  على ظهر دبابة،طاويا مسافات التقدم العسكري، عبر طيه للزمان والمكان، في خطواته المتسارعة إلى كرسي الرئاسة ، وما جاورها.

وقس على كل ماتقدم سيبة الألقاب في بقية المجالات فكم من مفكر لا يفكر، ورجل أعمال لا يعمل،وولي لا تدري لمن ولايته. وصالح مخبول ، وزعيم مزعوم،ومصلح فاسد، ووزير يَزِرُ، ولا يُؤازر،ومستشار لا يشير، ولا يستشار.....

والواقع أن الألقاب وضعت في الأصل لتكون دالة على معنى،يترجم قيمة حاملها ومكانته، وإفراغها من ذلك باستخدامها – دون نية المجاز- في غير ماوضعت له،هو عبث بمنطق اللغة، ومنطق القيم، ومنطق الحياة.

 زد على ذلك أن حمولتها التشريفية - التي ينبغي أن تصان عمن لا يستحقها- كانت تمثل مُحرِّكا أساسيا وفعَّالا للهِمَم المُتشوِّقة لاكتسابها،فلا يَصِلُ إليها- في أي ميدان- إلا من قد سعى لها سَعْيَها، وضحَّى في سبيلها بالغالي والنفيس،هكذا كنا، حتى ونحن في عهد السيبة الكبرى،أما اليوم في عهد دولة القانون المفترضة فقد تهاوتْ جدران حصانتها السميكة، وأصبحت ذخائرها متاحة لكل من هبَّ ودَبَّ، وحتى من لم يهب ولم يدب، يتمتع برمزيتها الشرفية بدون حق،ويجني ثمرات امتيازاتها بدون كد ولانصب، ومن هنا لم يعد الكسلاء الانتهازيون يجدون حافزا لأن يتجشموا عناء التكوين والتأهيل الدؤوب،للوصول إلى المراتب العليا، مادامت الألقاب الرمزية - بكل امتيازاتها – شأنها في ذلك شأن باقي ثرواتنا المتناهبة- يمكن أن تُسرق، وتُنهب، وتُزَوَّرَ، بدون وازع،ويمكن للذي ماتزال لديه "بقية أخلاق وشيء من التقوى"، أن يقتنيها بأبخس الأثمان،  من أسواق شبيهة بأسواق الخردة الصينية الرخيصة.

والخطير أن هذا الوضع المتردي المُتَسَيِّبَ لن يقتصر أثره السلبي على " المافيا " التي تسيطر عل "منطقته الحرة "، بل إن سيبته ستقتل الطموح، وروح التنافس الخَلاَّق، وستجعل حَمَلَةَ الألقاب الحقيقية ،والمتميزين الأكفاء،في كل المجالات،يشعرون بالضياع والتهميش والنبذ، وفقدان معايير التمايزالصحيحة،وانتفاء دوافع الاجتهاد والإبداع،وذلك ما سيضعهم أمام خيارين "أحْلاهُما مُر":

إما الرضى بأن يبقوا دَواجِنَ تَعْتاشُ على هامش حياةٍ يحتكرُ المُزَيَّفونَ مَتْنَها،وإما أن يضعوا أرواحهم على أكفهم،"ويُلقوا بها في مَهاوى الردى"، بحثا عن وطن مجهول، يحتاج خدمتهم، ويعرف قيمتهم، ويقدر خبرتهم،ويوفر لهم أقل ما يجب من الاحترام.

إن أهم ما يمكن التصدي به لسيبة الألقاب هذه،هو تفعيل تجريم انتحال الصفة قانونيا،في هذا الموضوع،إن لم تُؤسسْ محكمة خاصة بسارقِي الألقاب، يكون سقف العقاب والتعزير فيها عاليا، بدرجة تردع مُدْمِني هذا التزوير الفاحش،فـ" المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور"،إذا نزعا عنه، أو " سقط النصيف ولم يرد إسقاطه"، افتضح زيفه، وسقطت عنه "ورقة التوت"،هذا مع العلم أنَّ  مُدْمِنَ تزوير الألقاب لايقِلُّ خطرُ إدمانه عن خطرالإدمان على المخدرات،فكلاهما يُغَيِّبُ العقلَ،ويُزخرفُ الذاتَ والواقعَ، على غير ما هما عليه في الحقيقة، ولا تقلُّ – في نظري- خطورة تزويره عن تزوير العملات النقدية، فالألقاب أيضا "عملة صعبة"، ذات قيم، تُتَداوَلُ على أساسها ، في أسواق التعامل ماديا ورمزيا،صعودا وهبوطا ، كما هو حال مؤشرات البورصات المالية، وعلى ضوء ذلك تكون سرقتها لا تقلُّ جُرْمًا عن سرقة الثروات والأموال الخاصة والعامة.

 ومما يدل على تملك الألقاب، وضرورة حمايتها من التسيُّب، أن ألقاب النبلاء في بريطانيا - مثل  السير واللورد – تتوارث، وتباع،وإذا أراد حاملها أن يبيعها لغيره، عجزا عن تحمل أعبائها، أورغبة في الربح المادي من ورائها، فما عليه سوى أن يتبع مساطر توثيق البيوع المعمول بها هناك، وإلا كان مجرد منتحل صفة، ينتظره من العقاب الأليم ما يكفي لزجره أبد الدهر.

فإذا لم ننظر إلى الموضوع بهذا المستوى من الجدية،ونحيطه بذلك القدر من الروادع، فإن الحمولة الرمزية التشريفية للألقاب الدينية والأكاديمية والأدبية والفنية. والعسكرية...ستبلغ من التلوث والامتهان ما يجعل تعاطيها أقرب إلى التنابز بالألقاب، منه إلى التشريف والتكريم.

ومهما يكن،فإن الزهد في الألقاب، وعدم الحرص على استخدامها،إلا في مقاماتها الضروية والصادقة، هو الأنسب لفطرتنا البدوية الصحراوية العفوية، ولتربيتنا الدينية المتزهدة، ولمركزية خلق التواضع في منظومة قيمنا ...

وفي هذا السياق لا بأس أن نستحضر دائما قول أحد الشعراء:

مَنْ تَحَـــلَّى بغير مـــا هو فيهِ      شَانَ ما في يديْه ..ما يَدَّعـيهِ

ومَحَلُّ الفتى سيظهرُ للنَّـــــــا      س..وإنْ كان- دائما- يُخْـفيهِ

وبحَسْب الذي ادَّعَى ما عَداهُ       أنَّه عـــالـمً بالذي يَفْــــــتَريهِ 

وفي الختام أذكر القراء الكرام بالوجه الآخر لمحمود سامي البارودي، في شخصيته العظيمة التي أختزلتها المقررات المدرسية- عمدا- في كونه شاعرا فارسا، شارك تحت الراية العثمانية في حرب البلقان،ولكنه في الحقيقة  كان أكبر من ذلك، كان وزيرا للأوقاف، ووزيرا للحربية، ورئيسا للبرلمان ، ورئيسا حتى للوزراء، وبما أن نفسه كانت أعظم من كل المناصب السامية،فقد ضحي بكل ذلك الجاه والسلطان والأبهة ، ونبذ الجميع وراء ظهره ،ملتحقا بثورة أحمد عرابي ضد التدخل الأجنبي في بلاده، وضد تنازلات الحكم الخديوي للمحتل، ورغم الإسراف في تقدير الألقاب وتعاطيها في أحكام المماليك وحتى العثمانيين، مثل "البيه" و"البيك" و"الباشا"ـ فإن البارودي قد خلد بيتا حول الألقاب، جعلتُه شِعاري في هذا المنْحى،وأحبُّ أنْ يكونَ كذلك بالنسبة لغيري:

حَبَوْتُكَ ألْقابَ العُلىَ فادْعُني باسْمِي   فَمَا تَخْفضُ الألقابُ شيئا ولا تُسْمِي

 

  

بلاد الألقاب السائبة/ أدي ولد آدب